كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

[76] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) الصنف: النوع والضرب وفتح الصاد لغة فيه. والمرجئة: مثل المرجية، يهمز ولا يهمز، مشتق من الإرجاء، وهو: التأخير. قال ابن قتيبة: المرجئة هم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل، وقد غلط فيه أناس قليلو المعرفة بالحديث، فألحقوا هذا التفسير بالحديث، وذلك موجود في بعض النسخ من المصابيح، وهو باطل لا أصل له، وهذا الحديث مما تفرد أبو عيسى بإخراجه، وسياقه في كتاب أبي عيسى، كما أوردناه، وهذا التفسير أيضا فيه نظر، وقد وجدنا الأكثرين من أهل المعرفة بالملل والنحل ذكروا أن المرجئة هم الفرقة الجبرية الذين يقولون بأن العبد لا فعل له، وإضافة الفعل إليه بمنزلة إضافته إلى الجمادات، كما يقال: جرى النهر، ودارت الرحى، والجبرية- بالتحريك- خلاف القدرية. قال أبو عبيد: هو كلام مولد.
قلت: وهذا يدل على أن المرجئة هي اللغة الغريبة، وتسكين الياء، الجبرية لغة فيها، وهو اصطلاح المتقدمين، وفي تعارف المتكلمين يسمون المجبرة وفي التعارف الشرعي المرجئة، وكانت القدرية في الزمان الأول ينسبون من خالفهم إلى الإرجاء، حتى غلط في ذلك جمع من أصحاب الحديث وغيرهم، فألحقوا هذا النبز بجمع من علماء السلف ظلما وعدوانا، [وإنما سموا المرجئة]؛ لأنهم يؤخرون أمر الله، فيرتكبون الكبائر وهم يذهبون في ذلك مذهب الإفراط، كما يذهب القدرية مذهب التفريط، وكلا الفريقين على شفا جرف هار.
وأما القدرية، فإنهم منسوبون إلى القدر، وهو ما يقدره الله من القضاء، يقال: قدرت الشيء أقدره أقدر قدرا، وقدرته تقديرا، فهو قدر، أي: مقدور، كما يقال: هدمت البناء فهو هدم، أي: مهدوم، ولك أن تسكن الدال منه، قال الشاعر:
ألا يا لقوم للنوائب والقدر .... وللمرء يأتي الأمر من حيث لا يدري
وهو في الأصل مصدر، والقدر والتقدير: تبيين كمية الشيء، وأصل دعوى القدرية: أنهم يزعمون أن كل عبد خالق فعله، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله ومشيئته، وكل واحد من الفريقين يتشعب في أصل مذهبه على فرق كثيرة، والقدرية نسبوا إلى القدر؛ لأن بدعتهم وضلالتهم كانت من قبل ما قالوه في

الصفحة 66