كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

وتفصيل الحلال والحرام، أو أراه في المنام، أو نفث في روعه روح القدس من الحكم والأمثال، فكل ذلك من أقسام الوحي الذي آتاه الله، سوى القرآن، والقرآن من تلك الأقسام مخصوص بالرتبة العظمى، والمنزلة الكبرى؛ لأنه كلام الله: وحيه وتنزيله، ثم إنه يمتاز عما سواه من هذه الأقسام في أحكام التلاوة، ومس المكتوب منه، وكل ذلك في حق العمل والحكم به سواء؛ لأن الكل من عند الله، وقد نزه نطق نبيه عن الهوى، وأمر بإتباعه فيما يأمر وينهي، فقال سبحانه-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ولما كان المثل من أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، ساغ من طريق الاحتمال أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ومثله معه) للمشابهة التي بين الكتاب والسنة من طريق الحكم، وباب العمل به، غير أن الأظهر أنه أراد به الكمية لما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض- رضي الله عنه- وهو تلو هذا الحديث: (ألا إني والله)، قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر) فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومثله معه) وبين قوله: (أو أكثر) والجواب: أن نقول: يحتمل أنه كوشف بذلك، حين كان جماع ما علمه الله سوى القرآن مثل القرآن دراسة وكتابة، ثم كاشفه الله بالمزيد من عنده؛ فقال: (أو أكثر) والمعنى: بل أكثر، ويحتمل أن حديث المقدام- رضي الله عنه- للمشابهة في حق العمل والحكم به، ولهذا قال: (إنما حرم رسول الله كما حرم الله) وحديث العرياض- رضي الله عنه- للمشابهة بينهما في الكمية على سبيل التقدير، وإنما قال ذلك لئلا يسارع ذوو الأفهام القاصرة إلى رد ما لا يجدونه في الكتاب، ولا يستطيع أعداء الكتاب والسنة أن يصرفوهم عن أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا التمويه.
قلت: وللمجوز نسخ الكتاب بالسنة أن يعارض بحديث المقدام من استدل عليه بقوله- سبحانه-: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} ذهابا إلى المثلية في الحكم في هذا الحديث.
وفيه: (ألا يوشك رجل شبعان على أريكته) والمعنى: إن أشر النعمة وبطر الحشمة يحمله على الخوض فيما لا يعلمه والدفاع لما لا يريده، متسترا في ذلك بتعظيم القرآن، وهذه شنشنة عرفت في الإسلام قديما وحديثا عن علماء السوء وولاة الجور، والأريكة: سرير منجد مزين في قبة أو بيت.
وفيه: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ... الحديث) ذكر هذه النظائر لبيان القسم الذي ثبت بالسنة ولم يوجد له ذكر في الكتاب. وفيه: (فعليهم أن يقروه) يقروه- بفتح الياء- أي: يحسنوا إليه، يقال: قريت الضيف قرى، مثل: قليته قلى، وقريته قرأ: إذا أحسنت إليه، فإذا كسرت القاف قصرت، وإذا فتحت مددت وفيه: (فله أن يعقبهم بمثل قراه) أي: يجازيهم من صنيعهم: بأن يأخذ مثل قراه من مالهم، يقال: أعقبه بطاعته، أي: جازاه، وقد قيل: إن هذا في المضطر الذي لا يجد طعاما، ويخاف على نفسه التلف، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا والقوم مسنتون، وكانوا سكان البوادي والمفاوز لا يقام لهم

الصفحة 87