كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

وثلاث أراوي، على أفاعيل، فإذا كثرت، فهو الأروى، يقال: عقل الوعل: أي: امتنع في الجبل العلي، يعقل عقولا، وبه سمي الوعل عاقلا، ولعله - صلى الله عليه وسلم - ضرب المثل بالأروية دون الوعل؛ لأنها أقدر على التمكن مما توعر من الجبال، والمعنى: أن الدين في آخر الزمان يعود إلى الحجاز، كما بدأ منه، وذلك حين تظهر الفتن، ويستولي أهل الكفر على بلاد الإسلام، فينضم الفرارون بدينهم إلى الحجاز ممتنعين بها، وقد مر بيان قوله (إن الدين بدأ غريبا) ولقد حرف اسم الصحابي الذي يروي هذا الحديث في سائر النسخ من المصابيح إلا ما أصلحه أهل المعرفة بأسماء الرجال، وذلك أن زيد بن ملحة جاهلي لم يدرك الإسلام، والراوي سبطه وهو عمرو بن عوف، زيد بن مالحة المزني، والصواب فيه رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده.
[126] ومنه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل) تقول: حذوت النعل بالنعل: إذا قدرت كل واحدة من طاقاتها على صاحبتها؛ ليكونا على سواء، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - المعنى المراد منه فيما يتبعه من الحديث.
ومنه: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة) قد ذكرنا في الباب الأول معنى الأمة، وما يتصرف عليها من الوجوه. والمراد به هاهنا من تجمعهم دائرة الدعوة من أهل القبلة؛ لأنه أضافهم إلى نفسه، فقال:: (أمتي) وأكثر ما ورد في الحديث على هذا الأسلوب، فإن المراد منه أهل القبلة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: (أمتي أمتي) وقوله: (أمتي أمة مرحومة) ونحوها مما لا يجوز إطلاقه إلا على من أجاب دعوته نعم، وقد ورد أيضا في الحديث ما يصح أن يحمل على من انتهى إليه الدعوة كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة (فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) وعلى هذا فإن ذهب ذاهب في تأويل الأمة في هذا الحديث إلى أنه أراد به من توجه عليهم الإجابة لانخراطهم في سلك واحد من بلوغ الدعوة، فله وجه، وحينئذ يتناول أصناف أهل الكفر وفرق أهل الضلالة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سبعين ملة) فإن الملة في الأصل: ما شرع الله لعباده على ألسنة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى جوار الله، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها ولا يكاد يوجد مضافاً إلى الله، ولا إلى آحاد أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يقال: ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - وملتهم كذا، ثم إنها اتسعت، فاستعملت في الملل الباطلة، حتى قيل: الكفر كله ملة واحدة والمعنى: أنهم يفترقون فرقاً تتدين كل واحدة منها بخلاف ما تتدين به الأخرى، فسمي طريقتهم ملة، على الاتساع.

الصفحة 91