كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 11)

الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ تَنْتَقِلُ عَنْ صُورَةِ الْمَنِيِّ وَيَظْهَرُ التَّخْطِيطُ فِيهَا ظُهُورًا خَفِيًّا عَلَى التَّدْرِيجِ ثُمَّ يَتَصَلَّبُ فِي الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِتَزَايُدِ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَصِيرَ مُضْغَةً مُخَلَّقَةً وَيَظْهَرُ لِلْحِسِّ ظُهُورًا لَا خَفَاءَ بِهِ وَعِنْدَ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَالطَّعْنِ فِي الْأَرْبَعِينَ الرَّابِعَةِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَطِبَّاءِ وَحُذَّاقِ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّوَهُّمِ وَالظَّنِّ الْبَعِيدِ وَاخْتَلَفُوا فِي النُّقْطَةِ الْأُولَى أَيُّهَا أَسْبَقُ وَالْأَكْثَرُ نَقْطُ الْقَلْبِ وَقَالَ قَوْمٌ أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ السُّرَّةُ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مِنَ الْغِذَاءِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى آلَاتِ قُوَاهُ فَإِنَّ مِنَ السُّرَّةِ يَنْبَعِثُ الْغِذَاءُ وَالْحُجُبُ الَّتِي عَلَى الْجَنِينِ فِي السُّرَّةِ كَأَنَّهَا مَرْبُوطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَالسُّرَّةُ فِي وَسَطِهَا وَمِنْهَا يَتَنَفَّسُ الْجَنِينُ وَيَتَرَبَّى وَيَنْجَذِبُ غِذَاؤُهُ مِنْهَا قَوْلُهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ مِثْلُهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ فِي الْعَلَقَةِ وَالْمُرَادُ مِثْلُ مُدَّةِ الزَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي الِاسْتِحَالَةِ وَالْعَلَقَةُ الدَّمُ الْجَامِدُ الْغَلِيظُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلرُّطُوبَةِ الَّتِي فِيهِ وَتَعَلُّقِهِ بِمَا مَرَّ بِهِ وَالْمُضْغَةُ قِطْعَةُ اللَّحْمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الْمَاضِغُ قَوْلُهُ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ مَلَكٌ وَفِي رِوَايَةِ آدَمَ كَالْكُشْمِيهَنِيِّ لَكِنْ قَالَ الْمَلَكُ وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ بِهِ عَهْدٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ جِنْسُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْحَامِ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ أَنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالرَّحِمِ وَمِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ الَّذِي يُخَلِّقُهَا وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ أَتَى مَلَكُ الْأَرْحَامِ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ بِلَفْظِ بَعَثَ الله ملكا وَفِي حَدِيث بن عُمَرَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ النُّطْفَةَ قَالَ مَلَكُ الْأَرْحَامِ وَفِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَكِ مَنْ جُعِلَ إِلَيْهِ أَمْرُ تِلْكَ الرَّحِمِ فَكَيْفَ يُبْعَثُ أَوْ يُرْسَلُ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الَّذِي يُبْعَثُ بِالْكَلِمَاتِ غَيْرُ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالرَّحِمِ الَّذِي يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ إِلَخْ ثُمَّ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ قُلْتُ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا الْمَلَكُ بِكَفِّهِ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَيُقَالُ انْطَلِقْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَجِدُ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ الْإِرْسَالُ الْمَذْكُورُ بِذَلِكَ وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَا يَتَشَكَّلُ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَنِينِ فَقِيلَ قَلْبُهُ لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ وَهُوَ مَعْدِنُ الْحَرَكَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَقِيلَ الدِّمَاغُ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَمِنْهُ يَنْبَعِثُ وَقِيلَ الْكَبِدُ لِأَنَّ فِيهِ النُّمُوَّ وَالِاغْتِذَاءَ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْبَدَنِ وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مُقْتَضَى النِّظَامِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّ النُّمُوَّ هُوَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا وَلَا حَاجَةَ لَهُ حِينَئِذٍ إِلَى حِسٍّ وَلَا حَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ النَّبَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ الْحِسِّ وَالْإِرَادَةِ عِنْدَ تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِهِ فَيُقَدَّمُ الْكَبِدُ ثُمَّ الْقَلْبُ ثُمَّ الدِّمَاغُ قَوْلُهُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعَةٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِأَرْبَعٍ وَالْمَعْدُودُ إِذَا أُبْهِمَ جَازَ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِكَتْبِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْجَنِينِ وَفِي رِوَايَةِ آدَمَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْقَضَايَا الْمُقَدَّرَةُ وَكُلُّ قَضِيَّةٍ تُسَمَّى كَلِمَةً قَوْلُهُ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَنَقَصَ مِنْهَا ذِكْرُ الْعَمَلِ وَبِهِ تَتِمُّ الْأَرْبَعُ وَثَبَتَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ فِي رِوَايَةِ آدَمَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ فَذَكَرَ الْأَرْبَعَ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ وَالْأَكْثَرُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَع كَلِمَات بكتب رِزْقُهُ إِلَخْ وَضُبِطَ بِكَتْبِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَكَافٍ مَفْتُوحَةٍ

الصفحة 482