كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 11)

أَبَدَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْحِكَمِ الْمَذْكُورَةِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْقِصَّةِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى التَّسْلِيَةِ عَنِ الْمَيِّتِ بِأَنَّهُ مَاتَ بِفَرَاغِ أَجَلِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاءَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الْقَدِيمِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ لِأَنَّ التَّيْسِيرَ ضِدُّ الْجَبْرِ لِأَنَّ الْجَبْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ كُرْهٍ وَلَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ إِلَّا وَهُوَ غَيْرُ كَارِهٍ لَهُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ الشَّقِيِّ مِنَ السَّعِيدِ فِي الدُّنْيَا كَمَنِ اشْتُهِرَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ وَعَكْسُهُ لِأَنَّ الْعَمَلَ أَمَارَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ وَرُدَّ بِمَا تقدم فِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ قَدْ يَنْقَلِبُ لِعَكْسِهِ عَلَى وَفْقِ مَا قُدِّرَ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ فَيُحْكَمُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَأَمْرُ الْبَاطِنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمَّا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْقِ الْكَائِنَاتِ رَامَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقَدَرِ أَنْ يَتَّخِذَهُ حُجَّةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ لَا يَبْطُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بَاطِنٌ وَهُوَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ فِي حُكْمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَظَاهِرٌ وَهُوَ الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ فِي حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَةٌ مُخَيَّلَةٌ فِي مُطَالَعَةِ عِلْمِ الْعَوَاقِبِ غَيْرُ مُفِيدَةٍ حَقِيقَةً فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْعَاجِلِ دَلِيلٌ عَلَى مَصِيرِهِ فِي الْآجِلِ وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِالْآيَاتِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ الرِّزْقُ مَعَ الْأَمْرِ بِالْكَسْبِ وَالْأَجَلُ مَعَ الْإِذْنِ فِي الْمُعَالَجَةِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذَا الْحَدِيثُ إِذَا تَأَمَّلْتَهُ وَجَدْتَ فِيهِ الشِّفَاءَ مِمَّا يُتَخَالَجُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ أَفَلَا نَتَّكِلُ وَنَدَعُ الْعَمَلَ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي أَبْوَابِ الْمُطَالَبَاتِ وَالْأَسْئِلَةِ إِلَّا وَقَدْ طَالَبَ بِهِ وَسَأَلَ عَنْهُ فَأَعْلَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْبَابِ مَتْرُوكٌ وَالْمُطَالَبَةَ سَاقِطَةٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْأُمُورَ الَّتِي عُقِلَتْ مَعَانِيهَا وَجَرَتْ مُعَامَلَةُ الْبَشَرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا بَلْ طَوَى اللَّهُ عِلْمَ الْغَيْبِ عَنْ خَلْقِهِ وَحَجَبَهُمْ عَنْ دَرْكِهِ كَمَا أَخْفَى عَنْهُمْ أَمْرَ السَّاعَةِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى حِينُ قِيَامِهَا انْتَهَى وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ بن السَّمْعَانِيِّ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقَدَرِ وَقَالَ غَيْرُهُ وَجْهُ الِانْفِصَالِ عَنْ شُبْهَةِ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْعَمَلِ فَوَجَبَ عَلَيْنَا الِامْتِثَالَ وَغَيَّبَ عَنَّا الْمَقَادِيرَ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ وَنَصَبَ الْأَعْمَالَ عَلَامَةً عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَشِيئَتِهِ فَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ ضَلَّ وَتَاهَ لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ فَإِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ كَشَفَ لَهُمْ عَنْهُ حِينَئِذٍ وَفِي أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَإِنْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ لَكِنَّهَا قَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ بِوُقُوعِهَا بِتَقْدِيرِهِ فَفِيهَا بُطْلَانُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ صَرِيحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

الصفحة 498