كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 11)
اللَّمَمُ مُقَارَفَةُ الْمَعْصِيَةِ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ ومحصل كَلَام بن عَبَّاسٍ تَخْصِيصُهُ بِبَعْضِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ اللَّمَمِ أَوْ فِي حُكْمِ اللَّمَمِ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى بن آدَمَ أَيْ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ أَمَرَ الْمَلَكَ بِكِتَابَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي شَرْحِ حَدِيث بن مَسْعُودٍ الْمَاضِي قَرِيبًا قَوْلُهُ أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ وَبِهَذَا تظهر مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة قَالَ بن بَطَّالٍ كُلُّ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُلَامُ إِذَا وَاقَعَ مَا نُهِيَ عَنْهُ بِحَجْبِ ذَلِكَ عَنْهُ وَتَمْكِينِهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ فَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُجْبِرَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي لِأَنَّ الْمُشْتَهِيَ بِخِلَافِ الْمُلْجَأِ قَوْلُهُ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا إِطْلَاقُ الزِّنَا عَلَى اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِهِمَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ قَوْلُهُ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ أَيْ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لِلنَّاظِرِ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ النُّطْقُ بِضَمِّ النُّونِ بِغَيْرِ مِيمٍ فِي أَوَّلِهِ قَوْلُهُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَالْأَصْلُ تَتَمَنَّى قَوْلُهُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْحُكْمُ بِمُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ وَالتَّكْذِيبَ عَكْسُهُ فَكَانَ الْفَرْجُ هُوَ الْمُوقِعُ أَوِ الْوَاقِعُ فَيَكُونُ تَشْبِيهًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْإِيقَاعَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِهَا عَادَةً فَيَكُونُ كِنَايَةً قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمُرَادُ بِاللَّمَمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّمَمَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَأَنَّهُ يُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فِي وَسَطِ كِتَابِ الرقَاق وَقَالَ بن بَطَّالٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِغُفْرَانِ اللَّمَمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْجِ تَصْدِيقٌ بِهَا فَإِذَا صَدَّقَهَا الْفَرْجُ كَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَنَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ إِلَّا فِي قَوْلِهِ إِلَّا اللَّمَمَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَأَنْكَرَهُ وَقَالَ إِلَّا صغائر الذُّنُوب فَإِنَّهَا تكفر باجتناب كِبَارهَا وانما أَطْلَقَ عَلَيْهَا زِنًا لِأَنَّهَا مِنْ دَوَاعِيهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا وَفِي قَوْلِهِ وَالنَّفْسُ تَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ أَوْ يُكَذِّبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الزِّنَا مَثَلًا وَيَشْتَهِيهِ فَلَا يُطَاوِعُهُ الْعُضْوُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ بِهِ وَيُعْجِزُهُ الْحِيلَةُ فِيهِ وَلَا يَدْرِي لِذَلِكَ سَبَبًا وَلَوْ كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُهُ مَعَ وُجُودِ الطَّوَاعِيَةِ وَاسْتِحْكَامِ الشَّهْوَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ يُقَدِّرُهَا إِذَا شَاءَ ويعطلها إِذا شَاءَ ق
(وَله بَاب وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للنَّاس)
ذكر فِيهِ حَدِيث بن عَبَّاسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سُبْحَانَ مُسْتَوْفًى وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ مِنْ ذِكْرِ الْفِتْنَةِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا وَقَدْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تشَاء وتهدي من تشَاء وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ
الصفحة 504