كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 11)

عُمُومًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَتَبَهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَظْهَرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مَا أَضَافَ إِلَيْهِ هَذَا التَّارِيخَ وَإِلَّا فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ قَدِيمٌ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَيْ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا قَبْلُ فَكَمْ وَجَدْتَهُ كَتَبَ فِي التَّوْرَاةِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُرَادُ بِتَقْدِيرِهَا كَتْبُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ فِي الْأَلْوَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَصْلُ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ وَلَمْ يَزَلِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُرِيدًا لِمَا يَقَعُ مِنْ خَلْقِهِ وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمُرَادَ إِظْهَارُ ذَلِكَ عِنْدَ تَصْوِيرِ آدَمَ طِينًا فَإِنَّ آدَمَ أَقَامَ فِي طِينَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا بِخَلْقِهِ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ قُلْتُ وَقَدْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَكِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَّرَهُ أَوْ عَلَى تَعَدُّدِ الْكِتَابَةِ لِتَعَدُّدِ الْمَكْتُوبِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا كَذَا فِي هَذِهِ الطُّرُقِ وَلَمْ يُكَرَّرْ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ كَالَّذِي هُنَا لَكِنْ بِدُونِ قَوْلِهِ ثَلَاثًا وَكَذَا لمُسلم من رِوَايَة بن سِيرِينَ كَذَا فِي حَدِيثِ جُنْدَبٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بِلَفْظِ فَاحْتَجَّا إِلَى اللَّهِ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْأَعْرَجِ لَقَدْ حَجَّ آدَمُ مُوسَى لَقَدْ حَجَّ آدَمُ مُوسَى لَقَدْ حَجَّ آدَمُ مُوسَى وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْحَارِثِ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَخَصَمَ آدَمُ مُوسَى فَخَصَمَ آدَمُ مُوسَى وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ وَالنَّقَلَةُ وَالشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ آدَمَ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الْفَاعِلُ وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَقَرَأَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ وَمُوسَى فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ نَقَلَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْخَاصِّيَّةِ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ نَاصِرٍ السَّجْزِيٍّ الْحَافِظِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَحَجَّ آدَمَ بِالنَّصْبِ قَالَ وَكَانَ قَدَرِيًّا قُلْتُ هُوَ مَحْجُوجٌ بِالِاتِّفَاقِ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ آدَمَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ فَحَجَّهُ آدَمُ وَهَذَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ فَإِنَّ رُوَاتَهُ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ وَالزُّهْرِيُّ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ الْحُفَّاظِ فَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فِي ذَلِكَ وَمَعْنَى حَجَّهُ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ يُقَالُ حَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ مثل خاصمته فَخَصمته قَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ جَسِيمٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى أَعْمَالَ الْعِبَادِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَصِيرُ لِمَا قُدِّرَ لَهُ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَالَ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْجَبْرِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يُسَاعِدُهُمْ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يَسْتَلْزِمُ الْجَبْرَ وَقَهْرَ الْعَبْدِ وَيُتَوَهَّمُ أَنَّ غَلَبَةَ آدَمَ كَانَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصُدُورِهَا عَنْ تَقْدِيرٍ سَابِقٍ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَدَرَ اسْمٌ لِمَا صَدَرَ عَنْ فِعْلِ الْقَادِرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَفَى عَنْهُمْ مِنْ وَرَاءِ عِلْمِ اللَّهِ أَفْعَالَهُمْ وَأَكْسَابَهُمْ وَمُبَاشَرَتَهُمْ تِلْكَ الْأُمُورَ عَنْ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ وَاخْتِيَارٍ فَالْحُجَّةُ إِنَّمَا نُلْزِمُهُمْ بِهَا وَاللَّائِمَةُ إِنَّمَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يُبَدَّلُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ أَحَدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ وَنَقْضِهِ وَإِنَّمَا جِهَةُ حُجَّةِ آدَمَ أَنَّ الله علم مِنْهُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ اللَّهِ فِيهِ وَإِنَّمَا خُلِقَ لِلْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِي الْجَنَّةِ بَلْ يُنْقَلُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ فَكَانَ تَنَاوُلُهُ مِنَ الشَّجَرَةِ سَبَبًا لِإِهْبَاطِهِ وَاسْتِخْلَافِهِ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِهِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَة قَالَ فَلَمَّا لَامَهُ مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ قَالَ لَهُ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِكَ سَاقِطٌ عَنِّي إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَيِّرَ أَحَدًا بِذَنْبٍ كَانَ مِنْهُ لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ

الصفحة 509