كتاب روضة الطالبين وعمدة المفتين (اسم الجزء: 11)

الْعَوْدِ، وَطَرِيقُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ الْمَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ عَنْ حَالِهِ، وَيَعْتَمِدُ خَبَرَهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مَعَ شُرُوطِهِ السَّابِقَةِ مُتَنَزِّهًا عَنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، فَقِيهَ النَّفْسِ، سَلِيمَ الذِّهْنِ، رَصِينَ الْفِكْرِ، حَسَنَ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَسَوَاءٌ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ أَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي كَالرَّاوِي فِي أَنَّهُ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْقَرَابَةُ وَالْعَدَاوَةُ، وَجَرُّ النَّفْعِ، وَدَفْعُ الضُّرَّ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّرْعِ بِمَا لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِشَخْصٍ، فَكَانَ كَالرَّاوِي لَا كَالشَّاهِدِ وَفَتْوَاهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهَا إِلْزَامٌ بِخِلَافِ حُكْمِ الْقَاضِي. قَالَ: وَوَجَدْتُ عَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» إِنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا نَابَذَ فِي فَتْوَاهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، صَارَ خَصْمًا مُعَانِدًا، تُرَدُّ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيُقْبَلُ فَتَاوَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْخَوَارِجِ، وَمَنْ لَا يُكَفَّرُ بِبِدْعَتِهِ وَلَا بِفِسْقِهِ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشُّرَاةُ وَهُمْ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ السَّلَفَ، فَفَتَاوِيهِمْ مَرْدُودَةٌ، وَأَقَاوِيلُهُمْ سَاقِطَةٌ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَهُوَ قَاضٍ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْفَتْوَى هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَجْهَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ فَتْوَاهُ فِي الْأَحْكَامِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْحِسَابِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَسَائِلُ الْحِسَابِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَصَاحِبُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ كَمَا سَبَقَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ، حَافِظًا مَذْهَبَ إِمَامِهِ، ذَا خِبْرَةٍ بِقَوَاعِدِهِ، وَأَسَالِيبِهِ وَنُصُوصِهِ، وَقَدْ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأُصُولِيَّ الْمَاهِرَ الْمُتَصَرِّفَ فِي الْفِقْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَزِمَهُ أَنْ

الصفحة 109