كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 11)
"شفقكم وقرب غياثكم"، فقال الأعرابي: أويضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرًا. فضحك -صلى الله عليه وسلم- من قوله، فقام -صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فرفع يديه حتى رئي بياض
__________
مثوبته، فالمراد لازمه أو الضحك فيه وما أشبهه التجلي والظهور حتى يرى بعين البصيرة في الدنيا، وفي الآخرة بعين البصر، يقال: ضحك الشيب إذا ظهر الشاعر:
لا تعجبي يا هند من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
"من شفقكم" بفتح المعجمة والفاء بعدها قاف، أي: خوفكم، يقال: أشفقت من كذا بالألف حذرت، قال الجوهري: أشفقت عليه فأنا مشفق وشفيق، فإذا قلت: شفقت منه، فإنما تعني حذرته وأصلهما واحد.
زاد في رواية: وأزلكم بفتح الهمز وسكون الزاي، يعني ضيقكم "و" من "قرب" بضم فسكون "غياثكم" أي: أن الله تعالى يضحك من حصول الفرج لكم متصلا بشدة الخوف والضيق، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- قبل صعود المنبر والدعاء، فيكون علمه بالوحي فبشرهم به "فقال الأعرابي: أويضحك ربنا يا رسول الله؟، قال: "نعم"، فقال الأعرابي: لن نعدم" بفتح النون وسكون العين وفتح الدال، أي: لن نفقد "يا رسول الله من رب يضحك خيرا" لما جرت العادة به أن العظيم إذا سئل شيئا فضحك، أو نظر إلى السائل نظرة حلوة حصل ما يؤمله منه "فضحك -صلى الله عليه وسلم- من قوله؛" لأنه رضيه وأعجبه "فقام -صلى الله عليه وسلم- فصعد" بكسر العين مضارعه يصعد بفتحها "المنبر وتكلم بكلمات" أي: دعا بدعوات لم يحفظها الراوي كلها لقوله بعد كان، مما حفظ من دعائه "ورفع يديه" بالتثنية "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء" مثله في حديث أنس عند الشيخين.
قال الحافظ: ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء، وهي كثيرة جمعها المنذري في جزء مفرد، أورد منها النووي في شرح المهذب قدر ثلاثين حديثا، وأفردها البخاري بترجمة في كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، أما الرفيع البليغ ويدل عليه قوله: حتى رئي بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي رويت في رفع البدن في الدعاء، إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد: فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذياه، وبه حينئذ يرى بياض