كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 11)

ممَّا أوتِي، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً» . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ» أي لم يستغن.
وقال ابن [عبَّاسٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا.
وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال: «إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النَّظر نحوه، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه، وتمنِّيه، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا» .
وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ، وقد [عَبِسَتْ] في أبْوالِهَا، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية» .
قوله: «عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا» هون أن تجف أبعارها، وأبوالها على أفخاذها، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها، ولحومها، وهي أحسن ما تكون.
قوله: {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} .
قال ابن قتيبة: أي أصنافاً من الكُفَّار، والزَّوْجُ في اللغة: الصِّنف {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا، فيتقوى بإسلامهم، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
الخفض: معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3] ، أي: أنَّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطَّاعة، وجناح الإنسان: يدهُ.
قال الليثُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يد الإنسان: جناحه، قال تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين، والرّفقِ، والتَّواضع، والمقصود: أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ونظيره] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] ، وقوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
قوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} لما أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالزُّهدِ في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره أن يقول للقوم: {أَنَا النذير المبين} ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف، وكونه [شارحاً لمراتب] الثَّواب والعقاب، والجنَّة والنَّار،

الصفحة 489