كتاب المحلى بالآثار (اسم الجزء: 11)

وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَ إلَيْنَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَغْيِ تَائِبًا فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَقَالَ: إنِّي ظَنَنْتُهُ دَخَلَ لِيَطْلُبَ غِرَّةً، فَإِنْ نَكَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا وَلَا بُدَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَا قَوَدَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِمْ مَا يُوجِبُ الْقَوَدَ مِنْ التَّعَمُّدِ وَهُمْ عَالِمُونَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ: إذَا كَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالسُّنَّةِ فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَمْدًا، وَجَرَحَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَمْدًا، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ عَمْدًا، فَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ: لَا قَوَدَ، وَلَا دِيَةَ - غَلَبَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ: أَوْ لَمْ يَغْلِبُوا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا لِهَذَا الْقَوْلِ جَوَابٌ إلَّا أَنَّهُ حُكْمُ إبْلِيسَ، وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي كَيْفَ انْشَرَحَتْ نَفْسُ مُسْلِمٍ لِاعْتِقَادِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُعَانِدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِرَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ كَيْفَ انْطَلَقَ لِسَانُ مُؤْمِنٍ يَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ وَنَهَاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ السَّخِيفِ - وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى عَافِيَةً شَامِلَةً - كَأَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَسْمَعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ، وَالْجِرَاحِ، وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأَمْوَالِ، فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
وَهَذَا قَوْلٌ مَا نَعْلَمُ فِيهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ سَلَفًا: لَا مِنْ صَاحِبٍ وَلَا مِنْ تَابِعٍ، وَنَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّمَا مَوَّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَمَا ثَنَا حُمَامٌ ثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ ثنا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ثنا الدَّبَرِيُّ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَذَكَرَ قَتْلَ عُمَرَ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَلَمْ نُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبَةً قَطُّ، قَالَ: حِينَ قُتِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ انْتَهَيْتُ إلَى الْهُرْمُزَانِ، وَجُفَيْنَةَ، وَأَبِي لُؤْلُؤَةَ - وَهُمْ بِحَيٍّ - فَتَبِعْتُهُمْ فَثَارُوا وَسَقَطَ مِنْ بَيْنَهُمْ خَنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَانْظُرُوا بِمَا قُتِلَ بِهِ عُمَرُ فَوَجَدُوهُ خِنْجَرًا عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَخَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُشْتَمِلًا عَلَى السَّيْفِ حَتَّى أَتَى الْهُرْمُزَانَ فَقَالَ: اصْحَبْنِي نَنْظُرُ إلَى فَرَسٍ لِي - وَكَانَ الْهُرْمُزَانُ بَصِيرًا بِالْخَيْلِ - فَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَلَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا وَجَدَ حَدَّ السَّيْفِ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَتَلَهُ.

الصفحة 357