كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
104…ومرض كثير منهم (1). وكان أهل البادية أكثر المهاجرين تضايقاً وشكوى من هواء المدينة ومنهم من استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في سكنى البادية (2). وذكر أن رهطاً من عكل وعرينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخنا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم، بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشروبا من ألبانها (3). على أننا نجد - فيما بعد - أن المهاجرين أصبحوا أكثر تكيفاً وتعوداً على جو المدينة، وذلك بعد اتساع العمران في أرجائها وطول الإقامة بها، بالإضافة إلى ما ورد من دعاء عن الرسول، بأن يجبب الله إليهم ويصححها، وأن تنقل حماها إلى الجحفة (4). ولذلك ألف الناس ذلك الطقس واستطابوا هواءه وفضلوه على ما سواه (5). وندلل على ذلك بما حصل لأحد المهاجرين بعدأن نفاه ابن الزبير مع من نفاه من بني امية عن المدينة إلى الشام. فلما طال مقامه بها قال أبياتاً يحن فيها لربوع المدينة (6). وقد صاحب ذلك التكيف مع المناخ تكيف اجتماعي وتمثيل شبه تام شمل سكان ذلك المجتمع المتعدد الألوان والأشربة. وكان للرسول صلى الله عليه وسلم دور كبير في حصول ذلك التكيف، فهو المعلم وهو الموجه والعامل على صهر عادات…
__________
(1) ابن إسحاق: السيرة، جـ2، ص426 - 427، ابن كثير: البداية و النهاية، جـ3، ص221. (2) ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص139. (3) وكان بعضهم يقول: هم ناس من سليم، ومنهم عرينة وناس من بجيلة. (انظر الطبري: جامع البيان، جـ6، ص206 - 207). (4) ابن كثير: المصدر السابق، جـ3، ص221، المطري: التعريف، ص15، السمهودي: الوفاء، جـ1، ص56. ومما يدلل به أيضاً على أثر العمران في تصحيح هواء المدينة، ما ذكر عن عائشة "رضي الله عنها" أنها قالت: "وقدمنا المدينة، وهي أوبا أرض الله. قالت: فكان بطحان يجري نجلا، يعني ماء". (انظر: المطري: المصدر السابق، ص15). ويبدو أن اهتمام المهاجرين بنظافة المدينة جعلهم يكثرون من إحراق البخور في أجوائها. وفي ذلك ذكر أنه قدم على عمر بن الخطاب بسقط عود فلم يسع الناس، فقال: جمروا به المسجد، ينتفع به المسلمون. (انظر: ابن رسته: الأعلاق النفيسة، جـ7، ص66). وقد ذهب بعضهم في قوله حداً، بان العطر والبخور من الرائحة الطيبة إذا كان في المدينة، أضعاف ما يوجد له في غيرها من البلدان. (انظر: ابن رسته: نفس المصدر، جـ7، ص59). الجحفة: منزل بالقرب من مكة. واشتق اسمها من الجحف، وهو اقتلاعك الشيء، واستئصالك إياه. وسميت الجحفة، لأن السيل جحف أهلها، أي اقتلعهم فذهب بهم. (انظر: ابن دريد: الاشتقاق، ص308). (5) الأصفهاني: الأغاني، جـ1، ص39. (6) ومما قال: ألا ليت شعري هل تغير بعدنا قباء وهل زال العقيق وحاضره وهل برحت بطحاء قبر محمد أراهط غر من قريش تباكره لهم منتهى حبي وصفو مودتي ومحض الهوى مني وللناس سائره (انظر: الأصفهاني: نفس المكان). على أن ذلك لا يعني في الواقع، أن هواء المدينة قد نقى تماماً. فقد ذكر وجود للحمى بالمدينة، حتى سنة تسع من الهجرة. (انظر: ابن حجر: الإصابة، جـ1، ص572 - 73).