كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)

134…ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يريد بذلك، حين جعل الأخ في الله مقدماً على القرابة في المواريث، التنبيه إلى أهمية وعظم أمر المؤاخاة لما سيترتب عليها من أمور عظيمة في اصلح الإسلام وقيام مجتمع إسلامي ليس للعصبية القبلية الجاهلية مكان فيه. فالمؤاخاة بذلك المعنى كانت عملاً مثالياً لما يجب أن يكون عليه المسلمون، ولم تكن نظاماً يجب أن يفرض على الجميع، إذ أن باب الخيار، كان مفتوحاً لمنأراد أن يتبعه أو عكس ذلك. ولعل مما يدلل على ذلك ما وجد من عناية فائقة اتبعت عند اختيار المتآخين من الصحابة. وقد أظهرت الدراسة المقارنة والتحليلية لعينات كافية من الصحابة، ممن آخى الرسول صلى الله عليه وسلم، بينهم، أن المؤاخاة قد راعت العوامل النفسية والعلمية والفكرية، وتوخت تقارب المستوى الاجتماعي والفكري بين المتآخين، بغية توفير كل الأسباب لنجاحها وتقويتها (1). وحتى يكون في تشابه مشاربهم وطباعهم، ما يذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة (2). ويجد الباحث أمثلة كثيرة عن المراعاة في المستوى العلمي والفكري بين المتآخين. فمن ذلك المؤاخاة بين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل. فهما متفقان في الطباع والسلوك. فكلاهما يهتم بالعلم، حتى عدا من فقهاء الإسلام وعلمائه، فقيل عن جعفر بن أبي طالب: إنه أفضل الناس بعد النبي (3) (ص). وقالوا عن معاذ بن جبل: إنه المقدم في الحلال والحرام (4). وإلى جانب توفر تلك الصفة العلمية بين جعفر ومعاذ فإنهما من الناحية الفكرية والاجتماعية، متقاربان في الدرجة. فجعفر يعد خير الناس للمساكين (5)، أما معاذ فوصف بأنه كان سمحاً من خير شباب قومه (6). ويجد الدارس لحياة كل من سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وابي بن كعب من الناحية العلمية، أنهما قد اجتمعا أيضاً في درجة علمية واحدة. فسعيد بن زيد كان مهتماً ومعنياً بالفقه والحديث، وروى عنه كثير من الصحابة (7). كذلك فإن أبي بن كعب، كان سيد القراء وكان عالماً وأول من كتب للنبي (8) (ص). كما أنه يعد من فقهاء الصحابة المعدودين (9).…
__________
(1) يقول الغزالي: "الإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة فحيث يشع الجهل والنقص والجبن والبخل والجشع، لا يمكن أن يصبح أخاء أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جبلوا على شمائل نقية واجتمعوا على مبادئ رضية، ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله". (انظر: فقه السيرة، ص193). (2) السهيلي: الروض الأنف، جـ2، ص252. (3) ابن حجر: الإصابة، جـ1، ص237. (4) ابن عبد البر: الاستيعاب (هامش كتاب الأصابة، جـ1)، ص50، ابن حجر: المصدر السابق، جـ3، ص426 - 427. (5) ابن حجر: نفس المصدر، جـ1، ص137. (6) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص426 - 427. (7) ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص46. (8) ابن حجر: نفس المصدر، جـ2، ص19. (9) ابن عبد البر: الاستيعاب (هامش كتاب الإصابة، جـ1)، ص48.

الصفحة 134