كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)

143…إلا أن كثرة المسلمين (1)، قد دعت - فيما يبدو - إلى تغيير التشكيل في التعبئة العامة، فعقد الرسول صلى الله عليه وسلم، لوائين، أعطى أحدهما ناجية بن الأعجم والآخر بريدة بن الحصيب (2). وقد كان هذا اللواء، أو اللواءان، الموحدان، يوم الفتح، يجمعان شتى القبائل والبطون والكتائب على راياتها (3). وكما سبق أن أشرنا، كان تشكيل الوحدات والقيادات يخضع للظروف. ولهذا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين هم بدخول مكة، فرق جيشه، فأمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء (4). ومما سبق اتضح لنا مجمل الخطوط الرئيسية لأهداف التنظيم الجماعي، الذي هو مرحلة ثانية في التنظيم العام للقبائل في المدينة. ومن خلال البحث تتبعنا وسائله التي تدرجت بالقبائل، بغية الوصول بها في النهاية إلى تقبل التنظيم الجماعي والذي جمع عدة قبائل تحت راية واحدة وقيادة واحدة في الغزوات. ولعل النقطة الهامة التي نستخلصها، من بحث التنظيم الجماعي، هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يدرك أن من الصعوبة إلغاء العصبية القبلية أو نزعها من نفوس القبائل، في برهة قصيرة. ولذلك أقر الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك الوسائل وجعل المرونة طابع التعامل بها ومعها. ولقد بلغ من تحكم روح العصبية القبلية في نفوس القبائل المسلمة، أن أحد الصحابة (هو زيد بن عمير الكندي) عبر عما كان يعتمل في صدره من صراع قوي، بين واجبه الديني وتقاليده القبلية، فسأل النبي: هل أغير مع قومي؟ فقال النبي: ذهب ذاك بالإسلام، وذهبت نخوة الجاهلية، المسلمون أخوة (5). ونرى من ذلك كله، أن الهدف الأول للتنظيم الجماعي، كان يرمي إلى العمل على التخفيف من حدة العصبية القبلية، ولذلك جعل للمسلمين مسجداً جامعاً كان يسمى مسجد المدينة، ثم ربط بين أفراد القبائل في أخوة إسلامية سمت على أخوة ذوي الأرحام - بادئ الأمر - حين جعل الحق في التوريث، بعد الممات، للأ في الله دون ذوي الأرحام. ومن الناحية العسكرية، وحدت قيادات البطون التي ترتبط مع بعض بصلة رحم أو قربى، تحت راية واحدة، بحيث تجعل من القبيلة وحدة متكاملة. وفي النهاية جمعت رايات القبائل تحت راية واحدة، عرفت براية المسلمين، وكانت قيادتهم موحدة وتنافسهم وافتخارهم موجه لنواح دينية، لصالح الإسلام والمسلمين (6). وأصبح مبعث فخر القبائل في مجالسهم القبلية، إذ ذكروا، أن يقال عنهم: إنهم من أتقى الناس لله في الدنيا والآخرة (7).…
__________
(1) كان عدد جيش المسلمين يوم الفتح حوالي عشرةآلاف رجل. (انظر ابن إسحاق: المصدر السابق، جـ4، ص851، 859). وقد زادوا بعد فتح مكة وقبل فتح الطائف إلى حوالي اثنين عشر ألف. (انظر الواقدي: المازي، جـ3، ص889 "أكسفورد"، ابن حجر: المصدر السابق، جـ3، ص49). (2) ابن حجر: الإصابة، جـ3، ص541. (3) ابن إسحاق: السيرة، جـ4، ص863. (4) ابن إسحاق: نفس المصدر، جـ4، ص865. (5) ابن حجر: الإصابة، جـ1، ص570. (6) ذكر أن النعمان بن عجلان الزرقي الأنصاري قال في معرض فخره على قريش: فقل لقريش نحن أصحاب مكة ويوم حنين والفوارس في بدر نصرنا واوينا النبي ولم نخف صروف الليالي والعظيم من الأمر وقلنا لقوم هاجروا مرحباً بكم وأهلاً وسهلاً قد أمنتم من الفقر نقاسمكم أموالنا وديارنا كقسمة أيسار الجزور على الشطر (انظر: ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص562). (7) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص294 - 295.

الصفحة 143