كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
167…وما نظن أن هناك تعارضاً، بين القول، أن اختيار موضع المسجد النبوي وخطط المهاجرين، قد كان عن تخطيط أولي، اعتمل في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، وبين القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يقول عن ناقته: "خلوا سبيلها، فإنها مأمورة". فهذا - في رأينا يعد أحد دلائل نبوته، حيث بركت الناقة في وسط دور بني النجار، الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاؤوا متقلدين السيوف وطلبوا منه الركوب معهم إلى دارهم آمناً مطاعاً (1). ولو استعرضنا إجراءات هجرة ارسول صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أنها كانت - في جميع تفاصيلها - تخطيطهاً محكماً، وضع لكل طرف ومفاجأة، حلا وتدبيراً اع - لخا (2). ولم يحدث أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ألقى بنفسه إلى التهلكة، على اعتبار أنه رسول الله ومبلغ دعوته، وبالتالي فإن الله ناصره ومعينه. ومما لا ريب فيه، أن تدبير سكنى المهاجرين في المدينة، كان يحظى بالعناية من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستأثر علىجل اهتمامه. ومن غير المستبعد أن تكون تلك المسألة من ضمن مخطط الهجرة، الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، منذ أن أجمع الخروج إلى يثرب وأحكم أمره وتدبيره. وقد أطلعنا على رأي للمطري يتفق وما ذهبنا إليه، من أن أمر اختيار موضع مسجد الرسول في بني النجار، كان عن تخطيط مبدئي قديم، أعقبه رغبة في التأكد والتحقق من صلاحية المان، قبل اختياره الاختيار الأخير. وذلك حين قال "روى الزبير بن بكار عن محمد بن احسن بن زبالة عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عتبة عن أبيه قال: اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عينه، فنزل منزله وتخيره وتوسط الأنصار. قلت ولاينافي ذلك ما ورد أنه لما ركب من قباء يوم الجمعة كان كلما حاذى أو مر على دار من دور الأنصار، يدعونه إلى المقام عندهم: يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة. فيقول لهم: خلوا سبيلها، يعني ناقته، فإنها مأمورة. وهو قد أرخى لها زمامها وما يحركها (3) ". ولقد رأينا - مما سبق - أن مناطق قباء والعصبة والعالية كانت من أكثر جهات المدينة اكتظاظاً بالسكان، إضافة إلى أن المهاجرين الأولين، لماقدموا إلى المدينة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، نزلوا بقباء والعصبة (4). وكان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم، الاستقرار بقباء (5). غير أن وقوعها في الجنوب من طرف سهل المدينة الذي ينحدر على مهل نحو الشمال (6)، قد جعل منها - في رأينا - غير مؤهلة أن تكون مركز الفعالية كمدينة إسلامية للأنصار والمهاجرين. إذ يتعذر امتداد ذلك…
__________
(1) مجهول: المصدر السابق، ورقة 42. (2) يقول ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخروج، أتى أبا بكر بن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار ثور - وهو جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبدالله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه، أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر، تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. (انظر: السيرة، جـ2، ص335 - 36). (3) التعريف، ص43. (5) ابن سعد: الطبقات، جـ3، ص85 - 87. (5) ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما خرج من قباء، اجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا: أخرجت ملالاً منا أم تريد داراً خيراً من دارنا؟ قال: إني أمرت بقرية تأكل القرى. (مجهول: في سيرة الرسول، ورقة 42، الديار بكري: تاريخ الخميس، جـ1، ص339). ويبدو لنا أن المراد بقوله "قرية تأكل القرى"، هو تكاثر سكانها وتوسع خططها على ما حولها. (6) كحالة: جغرافية شبه جزيرة العرب، ص174.