كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)

2…من بعض الأذى وليس كله. ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، اشتداد الأذى على أصحابه المضطهدين، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة (وهي مملكة النجاشي، الذي كان على دين النصرانية).
ولقد أحدثت الهجرة إلى الحبشة، أصداء كبيرة في جزيرة العرب، وبلاد الحبشة. وبذلك اكتسبت أهمية وأبعاداً عظيمة. حيث أنها مكنت من نشر دعاية حسنة للإسلام والمسلمين، في بعض أرجاء العالم النصارني، كما أضفت على موقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، واصحابه، أهمية سياسية، واعترافاً دولياً بزعامته الجديدة على أمة الإسلام.
وكما سق أن ألمحنا، فإن ظروف مكة الدينية والاقتصادية والاجتماعية، لم تكن مهيأة أو قادرة على احتضان الدعوة الإسلامية، مع بداية انتشارها. لوذلك بدأ الرسول، صلى الله عليه وسلم، كصاحب دعوة للعالمين أجمع، يبحث عن مكان أفضل، يهيئ لدعوته الانتشار، ويضمن سهولة بناء دولة الإسلام الجديدة، على أسس قوية وثابتة. ولهذا عرض نفسه على القبائل في المواسم، طالباً منهم الدخول في الإسلام، ومؤازرته، ولهم خيرا الدنيا والآخرة. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يلق منهم إلا الإعراض والاستهزاء. على الرغم من أن العرب - في طول جزيرتهم وعرضها - كانوا - قبيل البعثة - يبدون اهتماماً كبيراً بالأمور المستهدفة تصحيح عقائدهم، وطريقة إيمانهم بالله. ونستنتج ذلك مما ذكر عن وجود اعتقاد بين العرب، بقرب ظهور نبي منتظر، اسمه محد. ولهذا سمى كثير منهم أولاده بهذا الاسم في الجاهلية، تيمناً باسمه، ورغبة أن يكون هو النبي المنتظر. ولعلنا من هذا، لتلمس حقيقة الانقياد والتبعية لنفوذ قريش وتاثيرها على معظم القبائل. مما جعلهم يعطلون ملكة التفكير لديهم ويتخلون عن نصرة محمد والإيمان بدعوته، لا لشيء، سوى أن قومه قريش لم يؤمنوا به. ولم يمكث الرسول صلى الله عليه وسلم، بمكة، كثيراً - على هذه الحال - فقد قيض الله تعالى له - في السنة العاشرة من البعثة، تقريباً - جماعة من أهل يثرب (الأوس والخزرج) حضروا الموسم، فعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، الإسلام، فقبلوه. ثم رجعوا إلى يثرب، فتكلموا بالإسلام. فلاقى حديثهم قبولاً لدى البعض من قومهم. ثم انتشر الإسلام، في يثرب، انتشاراتً سريعاً جداً، حتى قبيل: أنه لم يبق دار إلا وفيها ذكر لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقد أرجع معظم المؤرخين المسلمين - كابن إسحاق - دواعي هذا الإقبال السريع، من قبل الأوس والخزرج، على الدخول في الإسلام، إلى عوامل اجتماعية، تمثلت في طبيعة تركيب السكان في يثرب، من العرب، المتنافسين على السلطة، واليهود، الذين لم يكن وضعهم - حينذاك - مستقراً. فقد كانوا - على ضعف موقف الأوس والخزرج، النسبى - يخشون على مركزهم، وما بأديهيم من ثروات طائلة. هذا بالإضافة إلى ما ذكر عن إيمان الأوس والخزرج بظهور نبي منتظر، فكانت اليهود على اعتبار أنهم أهل كتاب وعلم، وأن الأوس والخزرج وثنيون - توعدهم به، كلما أحسوا بقوتهم، أنهم سيتبعونه ويقتلونهم به.

الصفحة 2