كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
229…
إن اكتمال وحدة الموضوع، لبحثنا هذا، يستوجب علينا إلقاء بعض الضوء على بعض مظاهر النواحي العلمية والثقافية، لما في معرفتها من أهمية عظيمة قد تساعد على فهم طبيعة الحياة في المجتمع المدني. وفي تناولنا لبعض هذه النواحي، سنتوخى الاختصار قدر الإمكان، رغبة في حصر الموضوع والتركيز على أهم نقاطه. حتى تعم الفائدة، ويفي بالغرض الذي نريده، وسنحرص - عند تناولنا له - على استعراض لمحات عن الطابع العام، لاهتمام مجتمع أهل المدينة، في النواحي العلمية والثقافية، ومدى استفادته وتاثره بها. وذلك دون التعرض للتفاصيل، التي قد تخرجنا عن صلب موضوعنا. وما ذلك إلا لإيماننا العميق، بأن موضوع الحالة العلمية والثقافية في المدينة - على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - يعد بحد ذاته موضوعاً مهماً يستحق بمفرده دراسة مستفيضة وخصصية، نرجو أن تحظى باهتمام الباحثين في هذا المجال قريباً.
1 - التعليم
اهتم الإسلام أول ما اهتم، بالعلم والحث عليه، منذ أوائل نزول القرآن الكريم (1). وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم، حين فشا الإسلام في أهل المدينة، بعد العقبة، على إرسال مصعب بن عمير بن هاشم إليهم، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقهم في الدين (2). ومما يظهر اهتمام الإسلام بالعلم والتعليم، قول الله تعالى، في معرض ذكره عمه على خلقه: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (3) ". وقال تعالى، مبيناً منزلة العلماء: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعلمون خبير" (4). وقد اقتضى الأمر، رغبة في نشر العلم والقراءة بين الصحابة في المدينة، أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتسليم كل مهاجر جديد، لأحد الصحابة، يمونه ويعلمه (5). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، المعلم الأول للصحابة، يتكي في المسجد بين…
__________
(1) قال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". العلق: 1 - 5. وفي السنة قول الرسول (ص): "من طلب العلم كان كفارة لما مضى". (انظر: ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص16). (2) ابن إسحاق: السيرة، جـ2، ص296، النووي: تهذيب الأسماء واللغات، جـ1، ص214، جـ2، ص96. (3) البقرة: 151. (4) المجادلة: 11. (5) ابن حجر: الإصابة، جـ1، ص15، 19، جـ3، ص36 - 37، 633.