كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
47…المسلمين - قبل ذلك - يرى وجاهة التوجه إلى الكعبة عند الصلاة، منذ الأيام الأولى التي سبقت الهجرة (1). فقد ذكر في حديث كعب بن مالك قال: "خرجنا في حجاج قومنا وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، كبيرنا وسيدنا، فقال: باها ولا، قد رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر، يعني الكعبة، وأن أصلي إليها. قال: فقلنا. والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم، يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه. قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة" (2). إلا أن قلوب أحبار اليهود كانت تنطوي على عداوة وحسد وضغن، لما خص الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم (3). وكانوا يزعمون أنهم أبناء الله (4). والذي يبدو، أن اليهود وهم مركز الثقل في الحياة الاقتصادية والمالية في المدينة، شعروا بالخوف من انفلات تلك الهيمنة من أيديهم وهم يرون تزايد المهاجرين إلى المدينة وفيهم كبار رجال الاقتصاد والتجارة من قريش وثقيف. ومما زاد خوف اليهود، أن مركز المهاجرين الاجتماعي قد ازداد قوة بعد انتصارهم الحربي والسياسي يوم بدر. فلذا عمد اليهود في مواقف لاحقة، إلى قطع العهد الذي بينهم وبين الرسول (5) صلى الله عليه وسلم، بغية إضعاف ذلك المركز وهز الأوضاع المستقرة بزرع الشك والريبة في مجتمع المدينة. ولم يكن من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ أحداً حتى تظهر عداوته، فاتبع مع اليهود أسلوب اللين ودعاهم إلى الله بمحاجتهم وتذكيرهم بما في كتابهم من نبوة محمد (6) (ص). حتى أنه كان يسعى إليهم بنفسه في بيوت عبادتهم وهي المدارس فيدعوهم إلى الله ويحاجهم بما في كتابهم (7). إلا أن اليهود ظلوا في غيهم سادرين، وتفاقم شرهم إلى درجة تهديد حياة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جعل الصحابة يكرهون أن يتجول في المدينة بمفرده ليلاً، خوفاً عليه من اليهود أن يصيبوه بسوء (8). وقد تعدى تهديدهم للرسول صلى الله عليه وسلم إلى التحرش بالمسلمين والمجاهرة بإهانتهم (9)، معتمدين في…
__________
(1) ابن قدامة: الاستبصار، ورقة 31. (2) ابن قدامة: نفس المكان. (3) ابن إسحاق: السيرة، جـ2، ص358، شلبي: التاريخ الإسلامي، جـ1، ص254، Holt P.M.; The Cambridge History of Islam. Vol. 1. P. 44. (4) المائدة: 18، ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص492. (5) ابن إسحاق: المصدر السابق، جـ2، ص560، جـ3، ص682، 684، 700، 715 - 21؛ البلاذري: الأنساب، ص308. (6) ابن إسحاق: السيرة، جـ2، ص385 - 389، ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص492. (7) الطبري: جامع البيان، جـ3، ص217. (8) ابن حجر: المصدر السابق، جـ2، ص226 - 227. (9) ابن الحاج: رفع الخفاء، ورقة 79، البلاذري: الأنساب، ص308 - 309.