كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
54…ويبدو أن معظم أولئك النصارى لم يستقروا بصفة دائمة في المدينة، وإنما كانوا يشغونها لإنجاز بعض شؤونهم التجارية، فقد ذكر أن كعب بن عدي التنوخي أقبل في وفد من أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقع له ولأصحابه تردد وخصوصاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي يربطه بالمدينة - حينذاك - ما كان بينه وبين عمر بن الخطاب من شراكة في تجارة البز (الثياب). وكان يقول: كنت شريكاً لعمر بن الخطاب فلما فرض الديوان فرض لي في بني عدي بن كعب (1). وذكر أنه أقام لا مسلماً ولا نصرانياً، ثم حسن إسلامه على عهد أبي بكر (2). كما ذكر أن الغلام الذي أهدى مع ماريا واسمه مأبور القبطي ظل على نصرانيته ولم يسمل (3). ولا يستبعد أن يكون للمجوس، وهم عبدة النار من الفرس (4)، وجود في المدينة على عهد النبي (ص). وقد نستدل على وجودهم من حديث لعبيد الله بن عبدالله قال: جاء مجوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أعفى شاربه وأحفى لحيته (5). كما ذكر أن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمه ماناهية، وكان مجوسياً تاجراً، سمع بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج بتجارة معه من مرو (من بلاد خرسان) حتى قدم المدينة فأسلم (6). وكانت المدينة تستقبل قبل الهجرة كثيراً من الموالي الفرس، وهم في غالبيتهم من المجوس مثل سلمان الفارسي، الذي كان مجتهداً في المجوسية ثم قدم الجزيرة العربية عبداً فابتاعه رجل من بني قريظة فاحتمله إلى المدينة (7). ويذكر أن للمجوس وجوداً في اليمن، وفي حجر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، أذ منهم الجزية (8). وبما أن المدينة - كما سق أن رأينا - كانت قبيل الإسلام مركزاً تجارياً هاماً في الطريق التجاري بين اليمن والحجاز، وبين الشام والشرق. فمن غير المستبعد أن يتواجد تجار من المجوس في يثرب بغرض التجارة.…
__________
(1) ابن حجر: الإصابة، جـ3، ص298 - 300. (2) ابن حجر: نفس المكان. (3) الديار بكري: تاريخ الخميس، جـ2، ص38. (4) المسعودي: مروج الذهب، جـ2، ص228، الديار بكرى: المصدر السابق، جـ1، ص351، جواد: المفصل، جـ6، ص691. (5) ابن سعد: الطبقات، جـ1، ص449. (6) ابن حجر: المصدر السابق، جـ3، ص385. ثم إن هناك تاثيراً على بعض المفردات المستعملة في الجزيرة العربية والمدينة خاصة، مثل لفظ البرني، وهو من ألوان التمر في المدينة، وقال أبو حنيفة: معناه بالفارسية حمل مبارك، لأن بر معناها حمل، ونى معناها جيد أو مبارك، فعربته العرب فأدخلته في كلامها. (انظر: السهيلي: الروض الأنف، جـ3، ص250). ومن ذلك أيضاً لفظ السروال فهي فارسية معربة. (انظر مالك: الموطأ، جـ1، ص325). (7) ابن إسحاق: السيرة، جـ1، ص139 - 142، الديار بكري: تاريخ الخميس، جـ1، ص351 - 352. (8) البلاذري: فتوح البلدان، جـ1، ص86.