كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
58…الزراعة، حتى ملكوا الأموال وصار لهم عدد وقوة. وقد بعث هذا التقدم الاقتصادي والاجتماعي في حياة الأوس والخزرج الخوف في نفوس اليهود. فقطعوا الحلف الذي كان بينهم (1). وهنا أحس الأوس والخزرج بضرورة وجود سند سياسي يعتمدون عليه ويردون به خطر ما تبيته اليهود لهم. ولهذا كان اتجاههم إلى الشام حيث بنو عمومتهم (2). والذي يظهر انهم كانوا حلفاء مقربين لدى ملوك غسان ويحظون بمنزلة عظيمة (3). ولذا فقد أمدوهم بقوة استطاعوا بها كسر شوكة اليهود والقضاء على وجوههم ورؤسائهم فعزت بذلك الوس والخزرج بيثرب (4). وقد تناول المؤرخون المسلمون تلك الحادثة على أنها مجرد استنجاد اقتضته التقاليد القبلية وحتمته (5). وهذا يجعلنا نطرح تساؤولاً عن حقيقة الدوافع التي جعلت الأوس والخزرج يتجهون إلى الغساسنة بالشام ولم يتجهون إلى القبائل العربية في الحجاز، وهم أرقب إليهم، وكا منهم العديد من بني عمومتهم (6). والذي يبدو لنا أن الغساسنة أنفسهم ربما هم الذين عرضوا على الأوس والخزرج المساعدة لدوافع سياسية كانت تستهدف القضاء على نفوذ اليهود بيثرب، ذات الموقع الاستراتيجي على طرق التجارة (7). خاصة وأن اليهودية قد تسللت إلى اليمن وصار لها بها أنصار على النطاق الرسمي (8). مما قد يجعل منها قوة قد تعرض الوجود المسيحي في اليمن والحبشة لخطر كبير (9). ولذا فإن بني غسان بالشام، وهم حلفاء الروم المدافعين عنهم لرد هجمات البدو (10)،…
__________
(1) العدوي: أحوال مكة والمدينة، جـ2، ورقة 113. (2) العدوي: نفس المكان، ابن الأثير: الكامل، جـ1، ص402. (3) العدوي: المصدر السابق، جـ2، ورقة 113. الشريف: مكة والمدينة، ص330. (4) العدوي: المصدر السابق، جـ2، ورقة 113. (5) ابن الأثير: المصدر السابق، جـ1، ص402. (6) ابن الأثير: نفس المصدر، جـ1، ص401. (7) حتى: تاريخ العرب، جـ1، ص146. (8) ابن إسحاق: السيرة، جـ1، ص19 - 23، ابن خلدون: تاريخ، جـ1، ص91، Landau, R.; Islam and Arabs, pp. 16 - 17. (9) يقول روم لاندو: "حوالي عام 350م كانت اليمن وحمير قد أمستا مستعمرتين حبشيتين .. وحمل الأحباش النصرانية إلى جنوب بلاد العرب .. واكتسبت اليهودية اتباعاً كثيرين من أفراد الشعب وكان بدافع النقمة على سادتهم النصارى أكثر مما كان ذلك بدافع من إيمان ديني عميق الجذور .. وكانت المستعمرات اليهودية قد قامت قبل ذلك في الجنوب وكانت قد أمست عند الغزو الحبشي موطدة الدعائم، بيد أنها كانت ضعيفة، عددياً ولم تشكل أي خطر كبير على الحكومة إلا بعد مجيء النصرانية، ثم أن قوتها بلغت من العظم جداً يجوز معه للمرء أن يفترض أن الحملة العسكرية الحبشية المخفقة والأخيرة ربما سيرت انتقاماً من اليهود الذين أساءوا معاملة السكان النصارى، وابتغاء تحطيم السلطان اليهودي في المنطلقة. (انظر: Landau, R.; O.P.cit pp. 16 - 17). (10) حتي: تاريخ العرب، جـ1، ص102 - 103، والروم، هو الاسم الذي أطلقه العرب قبل الإسلام وبعده على الرومان وحلفاؤهم البيزنطيين. (انظر: رستم: الروم في سياستهم وحضارتهم وديانتهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، جـ1، ص3، ط1، بيروت، 1955م).