كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)

68…والذي نرى أن المنافقين - وهم في معظمهم من الأوس والخزرج لما يدخل الإيمان في قلوبهم - كانوا رجالاً غلبت عليهم روحهم الوطنية والعصبية القبلية وحسدوا هذا الرجل الغريب في المدينة، الذي خطف منهم الأنظار وحاز على النفوذ بمدينتهم. بعد أن كانوا قبيل الهجرة يستعدون فحياء مناسبة وطنية هي تتويج عبالله بن أبي بن سلول ملكاً على يثرب (1). ولا ريب أن الخزرج - خاصة - سيتيهون عجباً لو تم لهم ذلك وسيعدون تلك المناسبة من مناقبهم ومفاخرهم. ولا أدري هل كان هناك علاقة بين هذه وبين قول القائل أنه لا يوجد في بني عبد الأشهل، (وهم من الأوس) منافق واحد (2)؟، لأنه ربما أن الأوسيين، وهم الذين لم يمانعوا أن يحكمهم خزرجي بعد يوم بعاث على ما كان بينهم من عداوة، قد راجعوا أنفسهم في أمر تنصيب خرزجي عليهم، فلم يجدوا غضغضة أن يحكمهم رجل محادي لا أعز منه وقد جمعهم الله عليه (3). وقد وجد اليهود في المنافقين، ومعهم عبدالله بن أبي، خير عضيد لهم لمواجهة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بيثرب (4) وربما أنهم علقوا الأمل في استمرار نفوذهم على تمكن عبدالله بن أبي من أن يصبح ملكاً على أهل يثرب (5). وكان من المبادئ الوطنية التي نادى بها المنافقون واعتبروها حقاً من حقوقهم، طلبهم أن يكون الأمر لهم وليس لمحمد ومن معه (6)، الذين ما فتئوا يثبتون أقدامهم في المدينة، يشد أزرهم تتابع أعداد المهاجرين من كل القبائل وهو ما جعل الأنصار يمتلوكون أكثرية ضئيلة (7). ولهذا السبب كان انشقاق عبدالله بن أبي بمن معه من المنافقين يوم أحد وكان عدهم ثلاثمائة رجل (8). وكما أسفلنا - كانت مشكلة المنافقين الأولى هي عدم صحة إيمانهم (9)، وإلا لتغلبت روحهم الإسلامية على سلوكهم القبلي الجاهلي.…
__________
(1) يقول ابن إسحاق: وأما عبدالله بن أبي فكان قومه نظموا له الخزر ليتوجوه، ثم يملكوه عليهم، فجاء الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك. (انظر: السيرة، جـ2، ص423). (2) ابن إسحاق: نفس المصدر، جـ3، ص606. (3) السمهودي: الوفاء، جـ1، ص222، ابن الحاج: رفع الخفاء، ورقة 64. (4) ابن إسحاق: المصدر السابق، جـ2، ص358، ابن الحاج: المصدر السابق، ورقة 72. (5) Holt, P.M.; The cambridge History of Islam. Vol. 1. Pp. 43 - 44. (6) ابن إسحاق: السيرة، جـ3، ص584، ابن حجر: الإصابة، جـ3، ص443. (7) فلهاوزن: الدولة العربية، ص36. (8) ابن الحاج: رفع الخفاء، ورقة 81. (9) قال تعالى: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". البقرة: 8.

الصفحة 68