كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
86… صلى الله عليه وسلم رأى أن من المصلحة عدم شحن نفوس الأنصار بكراهية قريش، لما كان بعهده فيهم من مواهب وقدرات حال دون الاستفادة منها تأخر إسلامهم. وكان الطبري قد أشار إلى ذلك الحرص من الرسول صلى الله عليه وسلم على صلاح قومه ومحبته مقاربتهم ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ليس في المدينة فحسب وإنما منذ أن كان بمكة. وكان يتمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبينهم (1). ومما تجدر ملاحظته أن شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم في قريش لم تكن صادرة عن عاطفة قبلية أو عصبية، إذ أن معظم قبائل العرب في الجزيرة العربية كانت تعترف لقرش بتلك المنزلة. وكانوا في الجاهلية يسمون أهل الله وسكان الله وأهل الحرم، وقطان بيت الله (2). وقال عنهم عز وجل في كتابه: "أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبيى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون" (3). وقد ذكر أن أبا سفيان بعد إسلامه، كان يمازح رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ابنته أم حبيبة، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب فما انتطحت جماء ولا ذات قرن. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة (4). ويذكر ابن إسحاق أن العرب كانت تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم وقادة العرب وكانوا لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، عرفة العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عداوته. فدخلوا في دين الله أفواجاً، يضربون إليه من كل فج (5). وقد ذكر أن وفد بني عبيد بن عدي بن الدئل، لما وفدوا على رسول الله قالوا: إنا لا نريد قتالك ولو قاتلت غير قريش لقاتلنا معك (6). هذا يظهر إلى أي حد كانت قلوب العرب مع قريش، ويبين مقدار الاحترام الذي كانت تحظى به قريش لدى القبائل العربية لما كانت تتمتع به من مواهب قيادية في مجالات الاقتصاد والدين (7). فقريش…
__________
(1) تاريخ، جـ2، ص337 - 338. (2) ابن حبيب: المنمق، ص10. (3) القصص: 57. (4) الأصفهاني: الأغاني، جـ6، ص323. (5) السيرة، جـ4، ص985. (6) ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص47. (7) ابن حبيب: المنمق، ص10 - 12. ومما نراه أن نظام الحمس، الذي كان يميز قريش وخزاعة وكل من ولدت قريش من العرب وكل من نزل مكة من قبائل العرب عن القبائل العربية الأخرى بعادات خاصة خلال الإحرام، كان أهم العوامل التي ربطت القبائل بدين قريش ونفوذها إلى الحد الذي جعل أحدهم وهو زهير ابن جناب الكلبي يهاجم غطفان بعد أن قررت أن تنشئ حرماً مثل مكة. ولعل مما زاد ذلك النظام قوة وأهمية أن قبائل الحمس عاشت في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية، فقد سكنت ثقيف في جنوب شرقي مكة، وكنانة في الجنوب حيث تسيطر على طرق مكة - اليمن، وعامر بن صعصعة في شمال شرقي مكة، وقضاعة (كلب) على طريق الحيرة وفارس. (انظر: ابن حبيب: المحبر، ص178 - 179، وانظر أيضاً: دائرة المعارف الإسلامية، مادة حمس، الترجمة العربية، الأصفهاني: الأغاني، جـ12، ص121، كستر: مكة والحيرة، ص63).