كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
93…والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ضرورة الحد من استمرار هذه الهجرة الكبيرة غير المنظمة، والتي إذا ما استمرت على معدلها، فسوف تفقد المدينة قدرتها على استيعاب المهاجرين وتوفير ضروريات المعيشة لهم. ولذا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرم مساحة محدودة من المدينة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها (1)، وقدرت تلك المساحة، على أنها بريد في بريد (2). وحدود هذا الحرم، ما بين جبل أحد أو ثور شماله إلى جبال عير جنوباً، وما بين لابتي المدينة، أي حرة واقم شرقاً إلى حرة الوبرة غرباً (3). وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ممن كانت له غنم، أن ينأى بها عن المدينة فإنها أقل أرض الله مطراً (4). وكان لتلك الإجراءات في تحريم المدينة، أثر كبير في الحفاظ على ثروتها الحيوانية والزراعية. فكانت أبو هريرة يقول: والذي نفسي بيده لو أجد الظباء ببطحان ما عاينتها (5). وقد رأى بعض المؤرخين المسلمين أن حرم المدينة ليس كحرم مكة في أحكامها (6). فتحريم المدينة - كما أسلفنا القول - كان إجراء اقتضته ضرورة الحد من تدفق المهاجرين وتزايدهم فوق قدرة المدينة الاستيعابية. ويبدو أن مشكلة التفكير في نتائج تفدق المهاجرين الكبير، قد بدأت في الظهور، سنة خمس من الهجرة، حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجوع بعض القبائل المهاجرة إلى أموالهم وبلادهم (7). ومنذ ذلك التاريخ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص عند استقبال وفود القبائل، على سؤالهم عن بلادهم ويدعو لهم بنزول الغيث ثم يجيزهم منصرفين عن المدينة إلى بلادهم (8). ولم يكن ذلك يتم إلا بعد أن يبقوا في ضيافة النبي صلى الله عليه وسلم مدداً، لا تتعدى الشهر، ينالون خلالها قسطاً من تعاليم الإسلام وفاتحة القرآن وما يتيسر منه (9). ولم نجد ما يدل على أنه كان يشجعهم على البقاء في المدينة أو الهجرة إليها، خلال تلك الفترة، من سنة خمس حتى فتح مكة، حيث أعلن ذلك صراحة بقوله: لا هجرة بعد الفتح (20). ثم ميز القادرين على القتال بأحقية الهجرة دون غيرهم، ما دام العدو يقاتل (11).…
__________
(1) البلاذري: فتوح البلدان، جـ1، ص6 - 7. (2) كبريت: الجواهر الثمينة، ورقة 8. والبريدن أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، بذراع اليد. (انظر: السمهودي: الوفاء، جـ1، ص103). (3) البلاذري: امصدر السابق، جـ1، ص6 - 7، كبريت: المصدر السابق، ورقة 8. (4) ابن حجر: الإصابة، جـ2، ص314. (5) البلاذري: المصدر السابق، جـ1، ص7، المطري: التعريف، ص15 - 16. (6) كبريت: المصدر السابق، ورقة 8. (7) ابن سعد: الطبقات، جـ1، ص291. (8) ابن سعد: نفس المصدر، جـ1، ص297 - 298. (9) ابن حجر: الإصابة، جـ1، ص53، 78، 156، جـ3، ص342، 435. (10) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص403. (11) روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل". (انظر: ابن حجر: نفس المصدر، جـ2، ص520).