كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
95…ومن غير المستبعد - في رأينا - أن يكون من عوامل قلة وجود النجديين في المدينة وتفضيلهم البقاء في بلادهم، إنما يرجع إلى طبيعة نفسياتهم، الميالة للغلظة والعجرفة وحب المفاخرة، وهو طبع لا يتفق والروح السمحة السائدة بين الصحابة. وقد وصفهم الله، بأن أكثرهم لا يعقلون (1). وذلك بعد أن دخل وفد بني تميم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ونادوا من وراء حجراته أنأخرج إلينا يا محمد. فآذى ذلك من صياحهم النبي، صلى الله عليه وسلم (2). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفرح بإسلام أهل نجد ويؤمل قدوم سادتهم إلى المدينة (3)، وقد وصف أحد سادتهم بأنه سيد أهل الوبر (4). ويبدو أن لحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تواجد سادة أهل نجد في المدينة ما يبرره، فهم على ما اتصفوا به من جلافة في الطبع والسلوك (5)، إلا أنهم كانوا أصحاب شجاعة وفروسية، يشهد لهم بها. وهي صفات كانت عند المسلمين تعد الغاية وعدة الجهاد مع طاعة الله وصدق الإيمان (6). كما ذكر أن لبعض أهل نجد دراية جيدة بفنون البناء، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويبدو أنهم قد تركوا بصمات واضحة على طريقة وفن العمارة في المدينة بعد الهجرة. وربما قبل ذلك. فقد حكى أن طلق بن علي الحنفي، بنى مع الصحابة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال النبي (ص): قربوا له الطين فإنه أعرف (7). ولهذا يعد وجودهم في المدينة نافعاً ومفيداً. ومن الأسباب، التي حدت من هجرة النجديين إلى المدينة بالشكل الكبير، ما سبق أن ذكرناه عن ازدهار نجد الزراعي الذي سيعود نفعه على المسلمين بشكل أكبر وأضمن إذا ما دخل أهل نجد في الإسلام وصار هواهم مع المسلمين. وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تشجيع وتنمية قطاع الزراعة في نجد بإقطاعه بعض النجديين أرضاً في نجد كان بعضها يغل أربعة آلاف ومائتين أردباً (8).…
__________
(1) قال تعالى: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون". الحجرات: 4. (2) ابن عبد البر: الاستيعاب، (هامش كتاب الإصابة، جـ1)، ص96. (3) ابن حجر: المصدر السابق، جـ3، ص252 - 254. (4) ابن حجر: نفس المكان. (5) ابن حجر: الإصابة، جـ1، ص58 - 59. (6) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص239. (7) ابن حجر: نفس المصدر، جـ2، ص232 - 233، مجهول: في سيرة الرسول، ورقة 5. (8) ابن حجر: المصدر السابق، جـ1، ص89، جـ3، ص200 - 201. ونحب أن ننوه هنا، إلى أن ابن حجر لم يذكر نوع الوحدة حين ذكر أن الأرض كانت تغل أربعة آلاف ومائتين. وقد اثبتناها هنا أردباً لأنها كانت وحدة القياس الشائع استعمالها في تلك الفترة. فقد ذكر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص، وإلى مصر، أن يحمل طعاماً في البحر يكفي عامة المسلمين حتى يصير به إلى ساحل الجار (ميناء المدينة سابقة) فحمل طعاماً إلى القلزم، ثم حمله في البحر في عشرين مركباً في المركب ثلاثة آلاف أردب. (انظر: اليعقوبي: تاريخ، جـ2، ص154).