كتاب مجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (اسم الجزء: 1)
96…
نشاط طوائف المهاجرين
يجد الباحث المتتبع لنشاط سائر المهاجرين في المدينة أن ذلك النشاط كان كيبراً وواسعاً جداً، إلا أن ذكره كان نتفاً هنا وهناك في بطون الكتب التاريخية. وخاصة كتب الطبقات والسير والتراجم. ولعلها المأثرة البارزة لابن حجر في كتابه الإصابة - كما رأينا - أنك تجد في ثناياه إشارات وافية وموجزة عن رجال مجهولين قاموا بدور طيب ومفيد في المجتمع المدني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. وكان أبرز نشاطهم اهتمامهم بالرواية عن الرسول (ص). وقد جاء ذلك نتيجة ملازمتهم له، سواء في المسجد، حرصهم على أداء الصلاة معه (1)، أو في مجلسه (2)، أو عل طعامه (3). وكانت المباسطة وانعدام الوحشة بين الرسول صلى الله عليه وسلم، واصحابه، هي أساس العلاقة الحميمة القائمة بينهم. فقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمخارق الهلالي، وهو كاشف عن فخذه ولم يواره حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم وار فخذك فإنها عورة (4). ولم يؤنبه على سواها. وقد روى أن أبا هريرة، وكان أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جريئاً على أن يسأل رسول الله عن أشياء لا يسأله عنها غيره (5). ولقد تميزت روايات أولئك المهاجرين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، نتيجة تلك الملازمة الحميمة والدائمة، بمعلوماتها الدقيقة وأحياناً بالخصوصية مما لم يكن بعض الرواة من الصحابة يأتي على ذكرها، لعدم ملاحظته الدقيقة أو لعدم تقديره لما تحويه من معاني منظمة للحياة واسلوك العام. ومن ذلك: الروايات الخاصة بآداب الطعام. ذكر أبو خميصة المزني. أنهم حضروا طعاماً مع رسول الله وهو يشتغل بحديث رجل أو امرأة فجعلوا يأكلون ويقصرون في الأكل. أقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل معهم ثم قال: كلوا كما يأكل المؤمنون، فأخذ لقمة عظيمة ثم قال: هكذا لقماً خمساً أو ستاً إن كان مع ذلك شيء وإلا شرب (6). وروى نعامة الضبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه الطعام قال: سبحانك ما أحسن ما ابتليتنا، سبحانك ما أكثر ما أعطيتنا، سبحانك ما أعظم ما عافيتنا (7). ومن أمثلة تلك المعلومات الدقيقة، التي حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين على حفظها وذكرها لما تشتمل عليه من صور صادقة لعادات المجتمع المدني الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، ما ذكرته بنت مشرح الأشعري، أن أباها مشرحاً قص أظفاره فجمعها ثم دفنها ثم قال: هكذا رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم (8). أو ما رواه أحدهم، واصفاً نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيفية شدهما (9). وقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم، من بعض المهاجرين أدلاء على الطريق (10). وكان للكثير منهم خبرة في ذلك المجال.…
__________
(1) ابن حجر: الإصابة، جـ3، ص238، 278، 402، 420. (2) ابن حجر: نفس المصدر، جـ1، ص197، جـ3، ص277. (3) ابن عبد البر: الاستيعاب، (هامش كتاب الإصابة، جـ1)، ص63. (4) ابن حجر: المصدر السابق، جـ3، ص389. (5) ابن حجر: نفس المصدر، جـ4، ص206. (6) ابن حجر: الإصابة، جـ4، ص47. (7) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص558. (8) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص421. (9) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص466. (10) ابن حجر: نفس المصدر، جـ3، ص425.