كتاب الخطابة عند العرب

(الخَمْرُ غيرُ لائقةٍ لأنَّ علماء الاجتماع بأمريكا قَرَّروا أنها قَذًى في عَيْنِ المدَنِيَّة، وعَثْرَةٌ في سبيل العُمْران)، كان قياسُك هذا من قبيل الخطابة.
ثالثها: الشِّعْرُ: وهو القياس المؤلَّف من أقوالٍ خيَالِيَّةٍ. ومثال هذا أن يُزَيِّن لك الرجلُ الخُمُول والقعود عن الناس في ناحيةٍ فيقول: (الخُمُول أهنأُ حياةً، وأقربُ إلى السلامة من الظهور، فإنَّ عواصف الرياح تحطِم الأشجارَ الشَّامخة برؤوسِها، ولا تَمَسُّ الشجرَ القريب من الأرض بسوء). وإنما كان هذا القياسُ شِعْرًا؛ لأنَّه لم يزد على أن خَيَّلَ لك الظاهرَ بالعملِ مع الجماعةِ في صورةِ ما تصرَعُه الرياح العاصفةُ، حتى تأخذَك رَوْعَةٌ، وتَسُلَّ يدَك من يدهم نُفُورًا وفَزَعًا. ويمكنُك أن تعارِض هذا الخيالَ بخيالٍ مثلِه فتقول: (الظهور خيرٌ من الخمول؛ فإنَّ الثعالبَ تدوس النباتَ القريبَ من الأرض بأرجلِها، ولا تَصِلُ إلى الأشجار الشَّامخة إلا أن تَرمُقَها بأعينِها).
وقد يجتمع في القياس الواحد الشِّعْرُ والخَطَابة، ومثال هذا أن تقول: (عَلِّمُوا البنات تحت ظِلال الصِّيَانةِ والحيَاء، فإنهنَّ من البنين بمنزلة أعجاز القصيدة من صدورِها، ولا يحسُن في القصيدةِ الواحدةِ أن تكونَ صدورُها مُحْكَمةً، وأعجازُها ضعيفةً متخاذِلةً). وهذا القياس من جهة ما فيه من تَخْييلٍ شِعْرٌ، ومن جهة ما يَضعُه في النَّفس من إقناعٍ خَطَابَةٌ. وهذا النوعُ من الاستدلال هو ما يسميه الباحثون في فلسفة الأدب بـ (التَّمثِيل الخَطَابي).
رابعها: السَّفْسَطَة: وهو القياس المؤلَّف من أقوالٍ لم تستوفِ شرائطَ الإنتاج. ومثاله: أن يقول مَنْ في قلبه مَرَضٌ: (إنَّ نَبْذَ آداب الدين تَطوُّرٌ من تطورات العصر، وتطوُّرات العصر لا تأتي مُقَاومَتُها بشيء). وإنما كان هذا القياس من نوع السَّفْسَطَة؛ لأنَّ التطورات التي لا تُقَاوَم

الصفحة 175