كتاب الجامع الصحيح للسيرة النبوية (اسم الجزء: 1)

والرسالة أمر هائل خطير (¬1)، أمر كونيّ تتّصل فيه الإرادة الأزليّة الأبديّة بحركة عبد مصطفى، ويتّصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثّل فيه الحق الكليّ في قلب بشر، وفي واقع حياة، وفي حركة تاريخ، وتتجرّد فيه كينونة بشريّة من حظ ذاتها لتخلص لله، لا خلوص النيّة والعمل وكفى؛ ولكن خلوص المحلّ الذي يملؤه هذا الأمر الخطير، فذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة، وهي لا تتّصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقّي المباشر بلا عوائق ولا سدود، ولا قيود ولا حدود!
وهنا نبصر النبوة أمراً عظيماً حقًّا، ونتصوّر مجرّد تصوّر لحظة التلقّي عظيمة حقًّا (¬2)!
هذا الوحي .. هذا الاتصال العجيب .. هذا الاتصال المعجز الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعاً يتحقق .. ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقّق؟!
تُرى، أيّة طبيعة هذه التي تتلقّى ذلك الاتصال العلويّ الكريم؟!
أيّ جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتّصل بهذا الوحي، ويختلط بذلك العنصر ويتّسق مع طبيعته وفحواه؟!
إنه إنسان ذو حدود وقيود، وتلك حقيقة .. ولكنها تتراءى هنالك بعيداً بعيداً على أفق عال، ومرتقى صاعد، لا تكاد المدارك تتملاّه!
روح هذا النبيّ .. روح هذا الإنسان الكريم .. تُرى، كيف كانت تحسّ بهذه الصلة؟! وهذا التلقّي؟! كيف كانت تتفتّح؟!
¬__________
(¬1) في ظلال القرآن: 3: 1202 بتصرف.
(¬2) المرجع السابق: 5: 3171 بتصرف.

الصفحة 18