كتاب شرح القصيدة الدالية للكلوذاني

الناظم رحمه الله يشير بهذا إلى الرافضة؛ لأنَّهم يبغضون معاوية رضي الله عنه بسبب غلوِّهم في عليِّ رضي الله عنه.
فالناظمُ رحمه الله عَمَدَ إلى التنْصِيصِ على فضل الخلفاء الرَّاشدين، ثم فضل معاوية رضي الله عنه، وفي هذا إرغامٌ ومُرَاغَمَةٌ للرَّافِضَة التي تُضْمِرُ العِدَاء والكيد والبغض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لكلِّ مَن جاء بعدهم ممن سَارَ على أَثَرِهِم وسلك سبيلَهُم من أهلِ السنَّة والجماعة.
فهؤلاء الرَّوَافض يُبغِضُون خِيَارَ الأُمَّةِ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وسائرَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم، ولذا فبُغضهم لمعاوية ليس أمراً خاصاً به، لكنَّ بعض الشيعة من غير الرافضة يُبغِضُ معاويةَ أيضاً وإن كان لا يُبْغِضُ أبا بكرٍ وعُمَرَ؛ وذلك لما كان بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من خِلافٍ، فهم يُبغِضُون معاويةَ بسبب غلوهم في حُبِّ عليٍّ رضي الله عنه، والواجب العدل، فمعاوية رضي الله عنه صحابيٌّ جليلٌ، لكنه ليس بمعصومٍ من الخطأ والزلل، بل ولا أحد من الصحابة كذلك، بل كلهم تجوز عليهم الذنوب، لكن لهم من الحسنات ما يُرجى أن تكون ذنوبهم مغمورةً فيها.
فالواجبُ هو معرفةُ فضلهِم وإنزالهم منزلتهم، والتماس العذر لهم فيما صدر منهم، وهم في ذلك إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فهو يتلخص في أمرين:
أولاً: الكف عن الخوض فيما شجر بينهم.
والثاني: التماسُ العذر لهم، وإذا كان هذا واجباً في حق جميع المسلمين فهو في حقِّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آكَدُ وأَوجَبُ (1).
__________
(1) ومن جميل ما يُسَطَّرُ في هذا المقام ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «العقيدة الواسطية» حيث قال -متحدِّثاً عن منهج أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم-: (وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقةِ الرَّوَافِض الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ، وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ، وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُون.
وَهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِه، بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِم الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَة، وَلَهُمْ مِن السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِن السَّيِّئَاتِِ مَا لاَ يُغفرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ، وَأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلََ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِه، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ.
ثُمَّ القَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ القَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِن الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالِجهَادِ فِي سَبيِلِهِ، وَالْهِجْرَةِِ، وَالنُّصْرةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ, وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِن الفَضَائِلِ، عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، لاَ كَانَ وَلاَ يَكُونُ مِثْلهُمْ، وَأَنَّهُم الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى الله جَلَّ شَأْنُهُ) انتهى.

الصفحة 119