كتاب المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية (اسم الجزء: 1)

ثم اعلم أن البيت إنما ذكروه للتمثيل لا للاستشهاد؛ لأن المعري لا يحتجُّ بشعره كما ذكره أبو علي الفارسيّ في الإيضاح من أشعار حبيب (¬1) على وجه التمثيل، ومع هذا لا يحتج بشعره (¬2) فإذا كان حبيب لا يحتج بشعره وهو أعلى طبقة من المعري، فأحرى أن لا يحتج بشعر المعري.
وجه التمثيل: أنَّه ذكر الخبر بعد لولا؛ فإنَّه في مثل هذا الموضع يجوز ذكر الخبر وتركه؛ فإنَّه لو قال: لولا الغمد لسال، على تقدير: لولا الغمد يمسكه، صح الكلام والمعنى، ولكنه اختار ذكر الخبر دفعًا لإبهام تعليق الامتناع على نفس الغمد بطريق المجاز، وقد خطأ بعضهم أَبا العلاء المعري في هذا؛ حيث أثبت الخبر بعد لولا (¬3) والمُخَطِّيُّ مُخْطِيٌّ لما ذكرنا.

الشاهد الخامس والستون بعد المائة (¬4)
تَمنَّوْا لِيَ المَوْتَ الَّذِي يَشْعَبُ الفَتَى ... وَكُل امْرِئٍ والمَؤتُ يَلْتَقِيَانِ
أقول: قائله هو الفرزدق، وقد ترجمناه، وقبله:
لَشَتَّانَ مَا أَنْوي وَيَنْوي بَنُو أَبِي ... جَمِيعًا فَمَا هَذَانِ مُسْتَوَيانِ
وهما من الطَّويل.
قوله: "تمنوا": من التمني، قوله: "يشعب" -بفتح العين؛ أي: يفرق، يقال: شعبة- بالتخفيف إذا فرقه، وفي الحديث: "ما هذه الفتيا التي شعبت بها النَّاس".
والمعنى: أن هؤلاء تمنوا لأجلي الموت الذي يفرق الفتى عن إخوانه أو عن أهله، أو عن أولاده، ولا بد لكل امرئ أن يلقى الموت، وفي معناه: ما روي عن الإِمام الشَّافعيّ (¬5) -
¬__________
= بعدها؛ لأنه خبر في المعنى". ينظر المغني (273).
(¬1) هو حبيب بن أوس الطَّائيّ أبو تمام الشَّاعر (ت 231 هـ). ينظر الأعلام (2/ 165).
(¬2) ليس في الإيضاح بشرح المقتصد كما ذكر العيني، وقد بحثنا عن هذا القول من أبي علي في كتبه الكثيرة فلم نعثر عليه أو عن حديث عن أبي تمام.
(¬3) يجب حذف الخبر في مواضع: الأول: بعد: "لولا" وذلك إذا كان كونا مطلقًا وهو الغالب نحو: لولا زيد لأكرمتك، أي: لولا زيد موجود أو كائن، فإن كان الكون خاصًّا ولا دليل عليه وجب إثباته كقوله - عليه السلام -: "لولا قومك حديثو عهد بجاهلية لأقمت البيت" وإن كان الكون خاصًّا وله دليل جاز إثباته وحذفه نحو: لولا أنصار زيد حموه لم ينج، ومنه بيت الشاهد، وهذا هو مذهب الرماني وابن الشجري والشلوبين، أما مذهب الجمهور فإن الخبر الواقع بعد لولا واجب الحذف مطلقًا بناء على أنَّه لا يكون إلَّا كونًا مطلقًا، فإن كان كونه خاصًّا امتنع الأخبار به بعد لولا".
ينظر توضيح المقاصد (1/ 288 - 290)، والمغني لابن هشام (273).
(¬4) ابن الناظم (49)، وأوضح المسالك (1/ 158).
(¬5) هو محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي أحد الأئمة الأربعة (ت 203 هـ). ينظر الأعلام (6/ 26).

الصفحة 516