كتاب جوامع السيرة ط المعارف

وبهذه الأمثلة، ومثلها كثير، تظهر لنا ميزة " جوامع السيرة "، وبم تنفرد عن غيرها من السير، وبم يتميز ابن حزم المؤرخ في طريقته التاريخية.
فهذه الدقة البالغة في تحليل النص المنقول، واختيار الرواية الصائبة بعد الفحص والنظر والمقارنة، وتصحيح الأوهام التي تنجم عن سرعة أو قلة تدقيق ... هذه هي المميزات التي لا يستطيع أحد أن ينكرها على ابن حزم المؤرخ.
وهي مميزات لا يستكثر معها تلك اللهجة التقريرية القاطعة التي تغلب على كتابته، ولا يستنكر إزاءها قوله دائماً، " لا شك " و " لا بد ". فإن الثقة القائمة على التحري المخلص، والنقل الثابت قطعاً، هي وحدها التي تملى على ابن حزم هذه الألفاظ القوية الحاسمة.
ولقد عرف أبو محمد بين معاصريه بالضبط الدقيق في تقييد التواريخ، حتى إن تلميذه الحميدي لا يفتأ يقول كلما وجد رواية أستاذه تخالف رواية غيره: " وأبو محمد أعلم بالتواريخ "، أو كلاما ً بهذا المعنى (1) .
ولذلك جاءت هذه السيرة تحمل رأياً قاطعاً لا تردد فيه، في تأريخ الأحداث لا لأن ابن حزم مؤرخ شديد الدقة والضبط فحسب، (بل لأنه ذو رأي مستقل في طريقه التأريخ الهجري. فهو يعتبر شهر ربيع الأول وهو الشهر الذي هاجر فيه الرسول إلى المدينة أول السنة الهجرية، محرراَ بذلك تأريخ وقائع السيرة، ينسبها إلى الوقت الذي وقعت فيه الهجرة فعلاً. لا يقصد بذلك مخالفة التاريخ الهجري الذي استقر عليه المسلمون جميعاً، منذ عهد عمر إلى الآن، وإلى ما شاء الله، وهو اعتبار شهر المحرم بدء السنة الهجرية.) فصنيعه هذا من الناحية التأريخية الصرفة أدق في التوقيت وأقرب إلى الواقع التاريخي. وخاصةً حين أصبح المؤرخون يقولون: إن هذه الحادثة أو تلك حدثت في السنة الثانية أو الثالثة، وانصرفوا عن مثل قول الواقدي إنها حدثت مثلاً - على رأس خمسة عشر أو ستة عشر شهراً من مقدم الرسول إلى المدينة، وواضح أن بين التعبيرين
__________
(1) انظر مثلاً ص: 275 من جذوة المقتبس.
ثم هاجر إلى المدينة، إذ أكرم الله الأنصار رضوان الله عليهم بذلك، فأقام بالمدينة عشر سنين.
ومات عليه السلام بها، وقبره فيها، في المسجد، في بيته الذي كان بيت عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها، وفيه دفن صلى الله عليه وسلم.
ابتدأه وجعه في بيت عائشة (1) ، واشتد أمره في بيت ميمونة أم المؤمنين رضوان الله عليها، فمرض في بيت عائشة بإذن نسائه، رضوان الله عليهن، بذلك.
وصلى الناس عليه أفذاذاً (2) ، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (3) قطنية، ليس فيها قميص ولا سراويل (4) ولا عمامة؛ ولحد له في قبره، وهو الحفرة تحت جرف القبر.
وتولى غسله علي والعباس عمه، والفضل، وقثم، ابنا العباس، وأسامة بن زيد مولاه، وشقران مولاه أيضاً، رضى الله عنهم.
ودخل في قبره علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، والفضل، وقثم، وشقران، وقيل: أوس بن خولي الأنصاري.
وقد قيل: إن المغيرة بن شعبة نزل في قبره بحيلة.
وسجى ببرد حبرة، ووضعت في قبره قطيفة كان يتغطاها.
__________
(1) ذكر ابن سعد 2 / 2: 10، 29 والمقريزي في الإمتاع: 542، 543 أن الوجع ابتدأه في بيت ميمونة وأنه اشتد به هناك أيضاً، فاستأذن نساءه في التحول إلى بيت عائشة فأذن له؛ وفي الإمتاع: 541: وقيل إن وجعه ابتدأه في بيت زينب بنت جحش.
(2) أفذاذاً: لا يؤمهم أحد.
(3) سحولية: نسبة إلى قرية سحول باليمن، يحمل منها ثياب قطن بيض.
(4) لم نجد ذكراً للسراويل عند غير ابن حزم، وأشهر الروايات ما ورد عند ابن سعد: 2 / 2: 65، وقد جاء فيها: أن رسول الله كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قباء ولا قميص ولا عمامة.

الصفحة 6