كتاب جوامع السيرة ط المعارف

صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف من الطائفتين أحداًُ، قال ابن حزم بعد ذلك: " أما التعنيف فإنما يقع على العاصي المعتمد المعصية وهو يعلم أنها معصية، وأما من تأول قصداً للخير، فهو وإن لم يصادف الحق غير معتنف. وعلم الله تعالى أننا لو كنا هناك ما صلينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيام، ولا فرق بين نقله صلى الله عليه وسلم صلاةً في ذلك اليوم إلى موضع بني قريظة، وبين نقله صلاة المغرب ليلة مزدلفة، وصلاة العصر من يوم عرفة إلى وقت الظهر. والطاعة في ذلك واجبة. " (1)
وليس ابن حزم صاحب مذهب في التاريخ بهذا وحده، ولكنه يتمتع بصفات المؤرخ النزيه المنصف على ما فيه من حدة وعنف. والنزاهة ميزة عامة عنده، لا تخص الكتابة في السيرة، لأن كتابة السيرة نوع من النقل، ولكنها تظهر في سائر ما كتبه من مادة تاريخية.
ومن المجانبة للإنصاف أن يتهم ابن حزم بأنه " كان متشيعاً في بني أمية منحرفاً عمن سواهم من قريش " كما يقول ابن حيان (2) - فإن مثل هذا الاتهام إساءة كبيرة إلى رجل عاش من طلاب الحق وعشاقه في القول والعمل.
فإن كان ابن حيان يعني بني أمية بالأندلس، فابن حزم كان يعرف لهم قيامهم بأمر الإسلام وجهادهم في سبيله، ويثني عليهم من هذه الناحية، أما إذا كان يعني بني أمية بالمشرق، فليس فيما كتبه ابن حزم ما يشير إلى شيء من التعصب لهم. وإن رسالته في تواريخ الخلفاء لتدلنا على أنه كان يرى إمامة ابن الزبير، ويعد مروان بن الحكم خارجاً عليه، ولا يثبت له حقاً في الخلافة (3) ، حتى إنه لقيول فيه، في موطن آخر: " مروان ما نعلم له جرحةً
__________
(1) انظر جوامع السيرة: 192، وتعليق ابن كثير على ذلك 4: 118.
(2) المغرب لابن سعيد 1: 355 تحقيق الدكتور شوقي ضيف، وطبع دار المعارف.
(3) رسالة ابن حزم في الخلفاء المهديين - ملحقات جوامع السيرة ص: 359 - 360.
عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} (البقرة: 22) . وقال تعالى {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (يونس: 38) .
(2) وشق الله تعالى له القمر بمكة، إذ سألته قريش آية، فأنزل الله تعالى في ذلك: {اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} (القمر: 1 2) .
(3) وأطعم النفر الكثير في منزل جابر، وفي منزل أبي طلحة يوم الخندق:
مرة ثمانين رجلاً من أربعة أمداد من شعير وعناق (1) .
ومرة أكثر من ذلك، من أقراص من شعير، حملها أنس بن مالك في يده.
ومرة أطعم جميع الجيش، وهم تسعمائة، من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد في يدها، فأكلوا منه حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة.
(4) ونبع الماء من بين أصابعه، فشرب منه العسكر كلهم وهم عطاش، وتوضأوا كلهم، كل ذلك من قدح صغير ضاق عن أن يبسط فيه صلى الله عليه وسلم يده المكرمة.
وأهراق من وضوئه في عين تبوك، ولا ماء فيها، ومرة أخرى في بئر الحديبية، فجاشتا بالماء، فشرب من عين تبوك أهل الجيش، وهم
__________
(1) أمداد: جمع مد، وهو مكيال، وهو ربع صاع، والصاع أربعة أمداد. قيل إن أصل المد مقدر بأن يمد الرجل يديه فيملأ كفيه طعاماً. والعناق: الأنثى من أولاد المعز.

الصفحة 8