كتاب معيد النعم ومبيد النقم

القاعدة. قيل للحَسَن البصريّ رحمه اللَّه: أليس قد قال النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يزدادُ الأمر إلَّا شدَّة، ولا الدُّنيا إلَّا ادبارًا"، فما بالُ عمر بن عبد العزيز -وهو سيِّد أهل زمانه وَلِي بعد الحجَّاج وهو خبيث هذه الأمة! فقال: لا بدّ للزمان أن يتنفَّس. فإذا علمت أن إنكاد المؤمنين طبع الزمان؛ كما قال التِّهامي:
حكم المنَّية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينما ترى الإنسان فيها مخبِرًا ... ألفيته خبرًا من الأخبار
طبعت على كدر، وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذار والأكدار
ومكلِّف الأيَّام ضِدَّ طباعها ... متطلِّب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنَّما ... تبني الرجاء على شفير هار
والعيشُ نومٌ والمنيّة يقظة ... والمرءُ بينهما خيال سار
فاقضوا مآربكم عجالًا، إنَّما ... أعماركم سفرَ من الأسفار
وتركَّضوا خيل الشباب وبادروا ... أن تُسترد فإنَّهنَّ عوار
ليس الزمان وإن حَرَصت مسالمًا ... طبع الزمان عداوة الأحرار
فما أجهل من يقول: ما بال فلان المستحقِّ خاملًا، وفلان غير المستحق خير خامل! أما علم أنَّ هذه عادة الزمان، وأن ذلك عدل من اللَّه تعالى: إذ كونه مستحقًّا فضل من اللَّه عليه، يربو ويزيد على ذلك الحُطَام الذي هو حظ من لا يستحقّ. أليس إذا عادل العالِم بين العلم مع الفقر، والجهل مع الغنى وجد علمًا بفقر خيرًا من جهل بغنى، وتقوى بانكسار خيرًا من فجور باستكبار! أنشدنا أبو عبد اللَّه الحافظ إجازة عن شيخ الإِسلام أبي الفتح بن دقيق العيد أنه أنشد لنفسه:
أهل المناصب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهُم
قد أنزلونا لأنَّا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم
فما لهم في توقِّي ضَرنا نظر ... ولا لهم في ترقِّي قدرنا هِممٌ
فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم ... مقدارهم، عندنا أو لو دروه هم!
لهم مُريحان: من جهلٍ وفرط غنى ... وعندنا المتعِبان: العلم والعَدَم
وهذه الأبيات ناقضها أبو الفتح الثقفيّ فأجادَ وأحسنَ حيث قال:
أين المراتب في الدنيا ورفعتها ... مِنَ الذي حازَ علمًا ليس عندهم؟

الصفحة 118