كتاب معيد النعم ومبيد النقم

الخانقاه تربية المريد، وحمل الأذى والضيم على نفسه، واعتبار قلوب جماعته قبل قوالبهم، والكلام مع كل منهم بحسب ما يقبله عقله، وتحمله قواه، ويصل إليه ذهنه، والكفّ عن ذكر ألفاظ ليس سامعها من أهلها؛ كالتجلِّي والمشاهدة ورفع الحجاب، إذا كان السامع بعيدًا عنها؛ فإن في ذكرها له من المفاسد ما لا خفاء به، بل يأخذ المريد بالصلاة والتلاوة والذكر، ويُربيه على التدريج. واللَّهَ اللَّهَ في ألفاظ جرت من بعض سادات القوم، لم يَعنوا بها ظواهرها، وإنَّما عنوا بها أمورًا صحيحة؛ فلا ينبغي للشيخ ذكرها لمريد لا يفهمها؛ فإنَّه يُضله؛ مثل ما يُقال عن بعضهم: العلم حجاب؛ فإنَّه لا يريد به ظاهر ما يفهمه المبتدئ منه؛ ولكن له معنى لا يناسب حالَ المبتدئ الكشف عنه، وغير ذلك من ألفاظ ربَّما جرى بعضها في حال السكر؛ فإنَّها ممَّا لا يقتدى بها، ولا توجب القدح في قائلها؛ بل نسلم إليه حاله، ونقيم عذره فيما سقط من بمين شفتيه حالة الغيبة؛ فإنَّ الشارع لم يكلف غائب الذهن. هذا إذا فقدت أسباب التأويل لكلامه بالكلية؛ ولن نجد ذلك إن شاء اللَّه تعالى في كلام أحد من المعتبرين؛ بل قد نزَّه اللَّه تعالى ألفاظهم عن الأباطيل، وما لهم كلمة إلَّا ولها محمِل حسن.

المثال التاسع والستون
فقراء الخوائِق: وأنت قد عرفت أن حقيقة الصّوفي من أعرض عن الدنيا، وأقبلَ على العبادة، فقل لفقير الخانقاه: إن دخلتها لتسُدَّ رمقك، وتستعين على التصوّف فهذا حق، وإن أنت دخلتها لتجعلها وظيفة تحصِّل بها الدنيا؛ ولست متصفًا بالإعراض عن الدنيا، والاشتغال غالب الأوقات بالعبادة، فأنت مبطل، ولا تستحق في وقف الصوفية شيئًا، وكلُّ ما تأكله منها حرام؛ لأنَّ الواقف لم يقفها إلَّا على الصوفية، ولست منهم في شيء. وقد كثر من جماعة اتخاذ الخوانق أسبابًا، والدلوق المرقعة طرائق للدنيا، فلم يتخلقوا من أخلاق القوم بغير لباس الزور. وهؤلاء المتشبهة الذين يقول فيهم الشافعيّ رضي اللَّه تعالى عنه فيما نقل عنه: رجل أكول، نئوم كثير الفضول. وقال الإمام أبو المظفَّر ابن السَمْعاني: نعوذ باللَّه من العقرب والفأر، ومن الصوفيّ إذا عرف باب الدار. وقال شيخنا أبو حيَّان في هؤلاء: أَكَلَة، بَطَلَة، سَطَلَة! لا شغل ولا مشغلة.

الصفحة 97