كتاب تاريخ الإسلام ت بشار (اسم الجزء: 12)

-سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة
ثُمَّ قَرُب مُحَمَّد شاه بْن محمود من بغداد، وجاءه زين الدِّين عليّ كَوْجَك صاحب إربل نجدة، فحاصرا بغداد، واختلف عسكر الخليفة عليه، وفرَّق الخليفة سبعة آلاف جَوْشَن، وعُمِلت الأتْرسة الكِبار، والمجانيق الكثيرة، وأذِن للوعاظ فِي الجلوس، بعد منْعهم فِي سنةٍ وخمسة أشهر. ثُمَّ ركب مُحَمَّد شاه وعلي كوجك، وجاءوا فِي ثلاثين ألفًا، ورموا بالنّشّاب إلى ناحية التّاج، وقاتَلَت العامَّة، ونهِب الجانب الغربي، وأحرقوا مائتين وسبعين دولابًا، وقاتل عسكر الخليفة فِي السُّفُن، كلّ ذلك فِي المحرَّم.
فَلَمّا كان ثالث صَفَر جاء عسكر مُحَمَّد فِي جَمْعٍ عظيم، وانتشروا على دجلة، وخرج عسكر الخليفة فِي السُفُن يقاتلون، وكان يَوْمًا مشهودا، فَلَمّا كان يوم سادس عشر صفر وصلت سفن للقوم فخرجت سفن الخليفة تمنعها من الإصعاد، وجرى قتال عظيم، وقاتل سائر أهل البلد.
وجاء الحاجّ سالمين فدخلوا بغداد من هذا الجانب. فَلَمّا كان يوم سادس وعشرين جاء بريدي يخبر بدخول ملكشاه ابن السّلطان مَسْعُود همذان، وكبس بيوت المخالفين ونهبها؛ ففرح الناس بذلك.
فَلَمّا كان يوم سلْخ صَفر عبر فِي السُّفُن ألف فارس، وصعدوا فدخلوا دار السَّلطنة فنزل منكورس الشِّحْنَة، وكان أحد الأبطال المذكورين، فأحاط بهم وقتل منهم جماعة، ورمى الباقون أنفسهم فِي الماء، واتّصل القتال، وكان الخليفة يفرّق كلّ يوم نحوا من مائة كرّ، وفي بعض الأيّام فرّق عليّ الْجُنْد خمسةً وعشرين ألف نشّابة، والكلّ من عنده، لم يكلّف أحدًا ولا استقرض.
وحكى الزَّجّاج الحلبيّ أنَّه عمل فِي هذه النَّوبة ثمانية عشر ألف قارورة للنِّفْط.
وفي خامس ربيع الأوّل خرج منكورس، وقيَماز السُّلْطانّي، والخيّالة، والرَّجّالة، فحملوا اثنتي عشرة حملة، واقتتلوا.
وفي العشرين من ربيع الأوّل جاءوا بالسلالم التي عملوها، وكانت أربعمائة سُلَّم، لينصبوها على السُّور فلم يقدروا، وأصبحوا يوم الجمعة، فلم يجر -[10]- يومئذ كبيرُ قتال، وهي الجمعة الثّالثة التي لم تُصَلَّ بها الجمعةُ ببغداد فِي غير جامع القصر.
ثُمَّ قَدِمَتْ بِنْت خُوارَزْم شاه زَوْجَة سُلَيْمَان شاه، وكانت قد أصلحت بين ملكشاه وبين الأمراء جميعهم فِي هَمَذان، وجاءت فِي زي الحاج الصُّوفية إلى المَوْصِل وعليها مُرَقَّعَة، ومعها رِكابيّ فِي زِيّ شحّاذ. ثُمَّ جاءت حَتَّى صارت فِي عسكر مُحَمَّد شاه، وتوصّلت وعبرت إلى الخليفة، فأُكرِمت وأُفْرِدت لها دار، وأخبرت بدخول مِلكشاه هَمَذان، وبأنّه نهب دُور المخالفين.
وفي الخامس والعشرين منه صعِد أهل بغداد السُّوَر بالسّلاح، وجاء العدوّ ومعهم السّلالم، وهمّوا بطمّ الخندق، فخرج النّاس واقتتلوا.
وفي التّاسع والعشرين منه نادوا: اليوم يوم الحرب العظيم، فلا يتأخَّرنَّ أحدٌ، فخرج النّاس ولم يجر قتال.
وبعث مُحَمَّد شاه إلى عليّ كَوْجَك يعاتبه ويقول: أنت وعدتني بأخْذ بغداد فبغداد ما حصَّلْت، وخرجت من يدي هَمَذَان، وأخربت بيوتي وبيوت أمرائي. فأنا عازم على المُضِيّ، فشجّعه ونخاه وقال: نمدّ الجسر، ونعبر، ونطمّ الخندق، وكانوا قد صنعوا غرائر وملأوها ترابًا، وننصب هذه السّلالم الطِّوال، ونحمل حملةً واحدة، ونأخذ البلد، ثُمَّ أخذوا يتسلّلون، وقَلَّتْ عليهم الميرة، وهلك منهم خلْق، ثُمَّ استأمن خلْقٌ كثير منهم وخامروا، ودخلوا، وأخبروا بأنَّ القوم على رحيل.
وفي العشرين من ربيع الآخر جرى قتال، وعُطّلت الجمعة إلا من جامع القصر، وهي الجمعة السّابعة، ووقع الواقع بين مُحَمَّد شاه وبين كَوْجَك. وهو يُطْمِعُه ويهوّن عليه أخْذَ بغداد.
ثُمَّ نصبوا الجسر، وعبر أكثر عسكر مُحَمَّد شاه، وعبر مُحَمَّد شاه من الغَد فِي أصحابه إلى عَشِيَّة، فَلَمّا كان العشاء قطع كوجك الجسر، وقلع الخِيَم، وبعث نقْله طول اللّيل. ثُمَّ أصبح وضرب النّار فِي زواريق الجسر، وأخذ خزانة مُحَمَّد شاه وخزانة وزيره، ورحل، وبقي مُحَمَّد شاه وأصحابه بقية يوم الثلاثاء. ثم ركب هُوَ وعسكره، فمنع الخليفة العسكر من أنّ يلحقوه، ونهب أصحاب مُحَمَّد شاه بعض الأعمال، ثُمَّ قال الخليفة: اذهبوا إلى هَمَذَان فكونوا مع ملكشاه، وخلع عليهم، وفرح النّاس بالسّلامة. ثم ركب الخليفة -[11]- وافتقد السّور من أوّله إلى آخره، وكثُرت الأمراض وغَلَت الأسعار. ثُمَّ جاء الخبر بوفاة السّلطان سنجر، فقطعت خطبته.
وفيها غزا رستم بْن عليّ بْن شهريار الملك مازندران بلاد الألموت وأوطأ الإسماعيلية ذُلا، وخرّب بلادهم، وسبى النّساء والأولاد، وغنم، وخذل الإسماعيلية، وخربت عامة قراهم.
وفيها خرجت الإسماعيلية، على حُجّاج خُراسان، فاقتتلوا وثبت الفريقان إلى أنّ قُتل أمير الحاجّ، فذلّوا وألقوا بأيديهم، وقتلتهم الإسماعيلية قتلًا ذريعًا، وعظُم المُصاب فـ " إِنَّا لله وإنا إليه راجعون ". وصبَّحهم من الغد شيخ فِي المقتلة ينادي: يا مسلمين، يا حُجّاج، ذهب الملاحدة وأنا مُسْلِم، فمن أراد الماء سقيته. فكان كلّ من كلَمه أجهز عليه، فهلكوا أجمعين إلا القليل.
وأما خراسان فتخربت على يد الغُزّ، ومات سلطانها سَنْجر، واختلف أمراؤه بعده، وغلب كلّ مقدَّم عليّ ناحية واقتتلوا، وجرت أمور طويلة بخراسان، أجحفت بخُراسان فالأمر لله. واشتد بخُراسان القَحْط، وأُكِلت الْجِيف؛ قال ابن الأثير: فكان بِنَيْسَابُور طبّاخ، فذبح إنسانًا علويًّا وطبخه، ثُمَّ ظهر ذلك فقتل الطباخ.
وسافر الخليفة إلى أوانا ودُجَيْل، ثُمَّ رجع. ثُمَّ راح يتصيَّد، ورجع بعد عشرة أيام.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين نور الدِّين وبين الفرنج على صفد، ونصر عليهم. ثُمَّ جاء إلى الخليفة رسوله برؤوس الفرنج وبتحف وهدايا.
وفيها، وفي سنة إحدى وخمسين، كان بالشام زلازل عظيمة هدمت فِي ثلاثة عشر بلدًا، منها خمسة للفرنج، وبدَّعُت فِي شَيْزَر، وحماه، والَمَعَرَّة وَحصن الأكراد، وطرابُلُس، وأنطاكية، وحلب. فأما حلب فهلك فيها تحت الردم خمسمائة نفس؛ وأمَّا حماه فهلكت جميعها إلا اليسير، وأمّا شَيْزَر فما سلِم منها إلا امْرَأَة وخادم، وهلك جميع من فيها وتسلّمها نور الدِّين، فجدّد عمارتها وحصّنها. وهي على جبل منيع بقي فِي يدي بني مُنْقِذ نحو مائةٍ وعشرين سنة أو أكثر. وأمّا كَفَرْطاب فما سِلم منها أحد؛ وأمّا فامية فهلكت -[12]- وساخت قلعتها، وأمّا حمص فهلك بها عالَمٌ عظيم، وأمّا المَعَرَّة فهلك بعضها، وأمّا تلّ حَرّان فإنّه انقسم نصفين، وظهر من وسطه نواويس وبيوت كثيرة، وأمّا حصن الأكراد وعِرْقة فهلكا جميعًا، وسِلم من اللاذقية نفر، وأمّا طرابُلُس فهلك أكثرها، وأمّا أنطاكية فسِلم نصفُها.
قال ابن الجوزيّ فِي "المنتظم": وصل الخبر فِي رمضان بزلازل كانت بالشّام عظيمة فِي رجب، ثم ذكر هذا الفصل.
قلت: اللَّه أعلم بصحَّة ذلك وبحقيقة تفاصيله.
قال: وفي رمضان أنفق الوزير ابن هُبَيْرة للإفطار طول الشّهر ثلاثة آلاف دينار، وكان يحضر عنده الأماثل. وخلع على المُفْطرين عنده الخلع السنية.
وفيها افتتح عسكر المسلمين غزَّة واستعيدت من الفرنج، وتسلم نور الدين بانياس من الفرنج.
وفيها انقرضت دولة الملثمين بالأندلس وتملّك عَبْد المؤمن مدينة المَرِيَّة، واستعمل أولاده على الأندلس، ولم يبق للملثمين إلا جزيرة ميورقة. وكانت المَرِيَّة بيد الفرنج من عشر سنين، فنازلها أبو سَعِيد بْن عَبْد المؤمن، وحاصرها برًّا وبحرًا ثلاثة أشهر، وبنى بإزائها سورًا، وجاع أهلها فسلموها بالأمان.
وفي صَفَر ورد على نور الدِّين كتاب السّلطان أبي الحارث سَنْجَر بْن ملكشاه بالتّشوُّق إليه، وما ينتهي إليه من جميل أفعاله، وإعلامه بما منَّ اللَّه عليه من خلاصه من الشّدَّة، والخلاص من أيدي الغُزِّ بحيلة دبّرها بحيث عاد إلى منصبه من السَّلْطنة، ووعده بنصره على الفرنج، فأمر نور الدِّين بزينة دمشق، وفعل فِي ذلك ما لم تَجْرِ بهِ عادةٌ فيما تقدَّم فِي أيّام ملوكها، وأمر بزينة قلعتها، فجُلِّلت أسوارُها بالْجَوَاشن، والدّروع، والتّراس، والسّيوف، والأعلام، وأنواع الملاهي، وهرعت الخلائق والغُرباء لمشاهدة هذا فأعجبهم وبقي أسبوعًا.
ثُمَّ جاءته الأخبار بإغارة الفرنج على أعمال حمص وحماة، ثم سارت -[13]- الفرنج في سبعمائة فارس، سوى الرّجّالة إلى ناحية بانياس، فوقع عليهم عسكر الْإِسْلَام ونزل النَّصر، فلم ينْجُ من الملاعين إلا القليل، وصاروا بين أسيرٍ وجريح وقتيل، وذلك فِي ربيع الأول. وجاءت الرؤوس والأسرى، وكان يومًا مشهودًا.
ثُمَّ تهيَّأ نور الدِّين للجهاد، وجاءته الأمداد، ونودي فِي دمشق بالتأهب والحث على الجهاد، فتبعه خلق كثير من الأحداث والفقهاء والصُّلحاء، ونازل بانياس، وجَدّ فِي حصارها، فافتتحها بالسيف، ثُمَّ إنّ الفرنج تحزّبوا وأقبلوا لينصروا هنفري صاحب بانياس وهو بالقلعة، فوصل ملك الفرنج بجموعه على حين غفلة، فاندفع جيش الإسلام، ووصلوا هُمْ إلى بانياس، فحين شاهدوا ما عمّها من خراب سورها ودُورها يئسوا منها.
ثُمَّ إنّ الملك نور الدِّين عرف أنّ الفرنج على الملاحة بقرب طبريَّة، فنهض بجيوشه، وجَدّ فِي السَّيْر، فشارفهم وهم غارُّون، وأظّلَّتْهم عصائبه، فبادروا الخيل، وافترقوا أربع فِرَق، وحملوا على المسلمين، فترجَّل نور الدِّين، وترجَّلت معه الأبطال، ورموا بالسّهام، ونزل النّصر، ووقع القتل والأسر فِي الكَفَرة.
قال أبو يَعْلَى: فلم يفلت منهم، على ما حكاه الخبير الصّادق، غيرُ عشرة نَفَر، قيل إنَّ ملكهم فيهم، وقيل قُتِلَ. ولم يُفْقَد من المسلمين الأجناد سوى رجلين، أحدهما من الأبطال قتل أربعةً من شجعان الفرنج واستشهد. وفرح المسلمون بهذا النصر العزيز، وجيء بالرؤوس والأسرى إلى دمشق، والخيّالة على الْجِمال، والمقدَّمون على الخيل بالزَّرِدِيّات والخوَذ، وفي أيديهم أعلامهم. وضج الخلق بالدعاء لنور الدين.
وفيها جاءت عدة زلازل عظيمة بالشام.
ثم جاءت الأخبار بوصول ولد السّلطان مَسْعُود للنّزول على أنطاكية، فاضطرّ نور الدِّين إلى مهادنة الفرنج، ثُمَّ توجّه إلى حلب.
وجاءت الأخبار من الشّمال بما يُرعب النّفوس من شأن الزّلزلة، بحيث انهدمت حماه وقلعتها ودُورها على أهلها ولم ينْج إلا اليسير. وأما شيزر -[14]- فانهدم حصنها على واليها تاج الدولة ابن منقذ. وأمّا حمص فهرب أهلُها منها وتلفت قلعتُها. وأمّا حلب فهدّمت بعض دُورها، وتلفت سَلَمية وغيرها. ثُمَّ جاءت عدَّة زلازل فِي أشهر مختلفة، ورخها حمزة التميمي.
وفي رمضان مرض الملك نور الدِّين مرضًا صعبًا، فاستدعي أخاه نُصرة الدِّين أمير ميران، وأسد الدين شيركوه والأمراء، فقرر معهم أنّ الأمر من بعده لأخيه لاشتهاره بالشّجاعة، فيكون بحلب، وينوب عَنْهُ بدمشق شيركوه، وحلفوا لَهُ وتوجه فِي المحفة إلى حلب، فتمرض بالقلعة، وهاج النّفاق والكُفْر، وشنّعوا بموت نور الدِّين. وذهب نُصرة الدِّين إلى حلب، فأغلق مجد الدِّين والي القلعة بابها وعصى، فثارت أحداث حلب وقالوا: هذا ملكنا بعد أخيه، وحملوا السلاح، وكسروا باب البلد، ودخله نصرة الدين، واقترحوا عليه أشياءَ منها إعادة التّأذين بحيَّ على خير العمل، مُحَمَّد وعليّ خير البَشَر، فأجابهم ونزل فِي داره.
ثُمَّ عوفي نور الدِّين وتوجّه المسمى بنصرة الدين إلى حَرّان، وكان قد وليها، وقدِم نور الدين دمشق.

الصفحة 9