176 - مُحَمَّد المقتفي لأمر اللَّه، أمير المؤمنين أبو عبد الله ابن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي بالله عبد الله ابن الأمير محمد ابن القائم بأمر الله عبد الله ابن القادر بالله أحمد بن إسحاق ابن المقتدر بالله جعفر ابن المعتضد الهاشميّ الْعَبَّاسيّ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. [المتوفى: 555 هـ]
من سَرَوات الخلفاء، كان عالِمًا، ديَّنًا، شُجاعًا، حليمًا، دمِث الأخلاق، كامل السُّؤدُد، خليقًا للإمامة، قليل المِثْل فِي الأئمَّة عليهم السّلام، لا يجري في دولته أمرٌ وإن صَغُر إلا بتوقيعه. وكتب فِي خلافته ثلاث رَبْعات منها رَبْعةٌ نفذت إلى بلاد فارس.
ووَزَرَ له عليّ بْن طِراد الزَّيْنَبيّ، ثُمَّ أبو نصر بْن جَهِير، ثُمَّ أبو القَاسِم عليّ بْن صَدَقة، ثُمَّ أبو المظفَّر يحيى بْن هُبَيْرة. وحَجَبَه أبو المعالي ابن الصّاحب، ثُمَّ كامل بْن مسافر، ثُمَّ أبو غالب ابن المعوّج، ثُمَّ أبو الفتح بْن الصُّيْقل، ثُمَّ أبو القاسم علي ابن الصّاحب.
وكان آدَمَ، مجدُور الوجه، مليح الشيبة، له هَيْبة عظيمة، وأمّه حَبَشِيَّة.
وُلِدَ سنة تسع وثمانين وأربعمائة فِي الثّاني والعشرين من ربيع الأوّل، وبوُيع بالخلافة في السادس عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، وقد جاوز الأربعين. وسمع من مؤدّبه أبي البركات بن أبي الفرج ابن السيبي.
قال ابن السَّمْعانيّ: وأظنّ أنّه سمع " جزء ابن عرفة " من أبي القاسم بن بيان، مع أخيه المسترشد بالله، واتَّفق أني كتبتُ قصَّةً إليه، وسألته الإنعام بالأحاديث، والإذن فِي السّماع منه، فأنعم وفتّش على الجزء ونفذه إليَّ على يد شيخنا أبي مَنْصُور ابن الجواليقي، وكان يؤم به الصلوات، فخرجت من بغداد قبل أن أسمعه منه، غير أنّي سمعته من ابن الجواليقيّ، وكان قد قرأه عليه: حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ، قال: أخبرنا المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، قال: أخبرنا أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو محمد الصريفيني، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا إسماعيل الوراق، قال: حدثنا حفص بن عمرو الربالي، قال: حدثنا أبو سحيم، قال: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ -[99]- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً وَلَا النَّاسُ إِلَّا شُحًّا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا على شرار الناس ".
قلت: أخبرناه أبو المعالي الهمذاني، قال: أخبرنا أبو علي ابن الجواليقي، قال: أخبرنا أبو المظفَّر يحيى بْن مُحَمَّد الوزير قال: قرأت على مولانا المقتفي لأمر اللَّه سنة اثنتين وخمسين: حدثكم السيبي، فذكره. وأجازه لنا جماعة سمعوه من الكندي، قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الله ابن البيضاوي، قال: أخبرنا أبو محمد بن هزارمرد الصريفيني، فذكره.
وقد جدد المقتفي بابًا للكعبة، واتَّخذ من العتيق تابوتًا لدفنه. وكان محمود السّيرة، مشكور الدّولة، يرجع إلى دين، وعقل، وفضل، ورأي، وسياسة؛ جدّد معالم الإمامة، ومهَّد رسوم الخلافة، وباشر الأمور بنفسه، وغزا غير مرَّةٍ فِي جُنُوده، وامتدَّت أيّامه.
وذكر أبو طَالِب عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عَبْد السميع الهَاشِميّ فِي كتاب " المناقب الْعَبَّاسيَّة " المقتفي، فقال: كانت أيّامه نَضِرة بالعدْل، زَهِرة بفعل الخيرات، وكان على قدمٍ من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه ومعه. وكان فِي أوّل عمره متشاغلًا بالدين، ونسخ العلوم وقراءة القرآن. إلى أنّ قال: ولم يُر مع سماحته ولِين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة فِي شهامته وصرامته وشجاعته، مع ما خُصَّ به من زُهده وورعه وعبادته. ولم تزل جيوشه منصورة حيث يمَّمت.
قال ابن الْجَوْزِيّ: مات بالتراقي، وقيل: دمل كان فِي عُنُقه، فتُوُفّي ليلة الأحد ثاني ربيع الأوّل، عن ستٍّ وستِّين سنة إلا ثمانيةٍ وعشرين يَوْمًا. قال: ومن العجائب أنّهُ وافق أَبَاهُ فِي علَّة التّراقي، وماتا جميعًا فِي ربيع الأوّل. وتقدَّم موت شاه مُحَمَّد على موت المقتفي بثلاثة أشهر، وكذلك المستظهر مات قبله السّلطان مُحَمَّد بْن ملكشاه بثلاثة أشهر. ومات المقتفي بعد الغَرَق -[100]- بسنة، وكذلك القائم مات بعد الغرق بسنة.
وكان من سلاطين دولته السّلطان سَنْجَر صاحب خُرَاسَان، والسّلطان نور الدِّين صاحب الشَّام.
واستوزر عَوْنَ الدِّين يحيى بْن هُبَيْرة. وكان هُوَ الذي أقام حشمة الدّولة العبّاسيَّة، وقطع عَنْهَا أطماع الملوك السَّلْجُوقيَّة وغيرهم من المتغلّبين.
ومِن أيّام المقتفي عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء، ولم يبق لهم فيها مُنَازع. وقبل ذلك لعلّ من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلّبين من الملوك، وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة.
وكان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كريمًا، جوادًا، محِبًا للحديث وسَمَاعه، معتنيًا بالعِلم، مُكرِمًا لأهله. وبويع بعده ولده أبو المظفر يوسف بن محمد، ولُقِّب بالمستنجد بالله.