كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 12/ 2)

تنفس صبح الشريعة المحمدية، أخذت تنزع من نفوسهم ما استغلظ فيها من الرذائل، وتطبع فيها ما تتحلى به من الفضائل، وذلك أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجده في السور المكية، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] الآية. وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]. وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} {الأعراف: 33] إلى غير ذلك من الآيات، وابتدئت المخاطبة في هذا النوع بما كان مألوفاً عندهم قريباً لعقولهم، حتى تمكنوا منه ورسخوا فيه، ثم خاطبهم بما كانوا يظنونه صلاحاً ولا يُعقل معناه من أول وهلة، كتحريم الخمر والميسر والربا وهو من آخر ما حُرِّم، والحكمة الغرّاء في ابتداهم بهذا النوع، إيناسهم بما يعهدونه في الجملة ويتمدحون به وهو من بديع السياسة، ولأن الأعمال الصالحة لا تقام إلا على تزكية النفس وطهارتها، يحقق لنا هذا قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، كما أن أضدادها لا تصدر إلا عن خبث ضربت عليه السريرة {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58].
وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصعاد
وإذا نظر الإنسان نظرة أخرى، يجد ملاك الفضائل كلها إنما هو إشراق العقل، ويقع التفاوت فيها بحسب ذلك قوة وضعفاً، والذي يستوقده التعليم ينبئنا على هذا تقديمه على التزكية في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]، ومن أعار هذا الموضوع نظرة ثالثة استقبل منه

الصفحة 16