كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 12)

[سورة النور (٢٤): آية ٥٥]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا جَهْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَسْلِحَتَهُمْ، فَنَزَلَتِ الآية. وقال أبو العالية: مكث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عشر سنين بعد ما أُوحِيَ إِلَيْهِ خَائِفًا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا فِيهَا خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ). وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَوَضَعُوا السِّلَاحَ وَأَمِنُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الله عز وجل أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ. قَالَ الضَّحَّاكُ فِي كِتَابِ النقاش: هذه [الآية «١»] تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ). وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ، وَاخْتَارَهُ وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ وَرَضِيَ أَمَانَتَهُمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ نَجَزَ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ، فَفِيمَنْ يَكُونُ إِذًا؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وحكى هذا القول القشيري عن
---------------
(١). من ك. [ ..... ]

الصفحة 297