كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 12)

وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَحَرُّجًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، إِذْ هُمْ مُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ الْأَصِحَّاءِ فِي الْأَكْلِ، لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي الْأَعْمَى، وَلِلْعَجْزِ عَنِ الْمُزَاحَمَةِ فِي الْأَعْرَجِ، وَلِضَعْفِ الْمَرِيضِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ مَعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ الزَّهْرَاوِيِّ: إِنَّ أَهْلَ الْأَعْذَارِ تَحَرَّجُوا فِي الْأَكْلِ مَعَ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ عُذْرِهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُبِيحَةً لَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَاقَ أَهْلَ الْعُذْرِ إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا ذَهَبَ بِهِ إِلَى بُيُوتِ قَرَابَتِهِ، فَتَحَرَّجَ أَهْلُ الْأَعْذَارِ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، أَيْ وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ. وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ الْمُخَاطَبُ وَغَيْرُ الْمُخَاطَبِ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ. وَذَكَرَ بيوت القربات وَسَقَطَ مِنْهَا بُيُوتُ الْأَبْنَاءِ، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ذَلِكَ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ:" فِي بُيُوتِكُمْ" لِأَنَّ بَيْتَ ابْنِ الرَّجُلِ بَيْتُهُ وَفِي الْخَبَرِ (أَنْتَ ومالك لأبيك). ولأنه ذَكَرَ الْأَقْرِبَاءَ بَعْدُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَعَارَضَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلِ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَلَّا يَكُونَ الِابْنُ مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) بِقَوِيٍّ لَوَهِيَ هَذَا اَلْحَدِيثُ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، إِذْ قَدْ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ مَالَ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ لِأَبِيهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى «١»: أَنْتَ لِأَبِيكَ، وَمَالُكَ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وَمَالُكَ لَكَ. وَالْقَاطِعُ لِهَذَا التَّوَارُثِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَوَجَّهَ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ" كَأَنَّهُ يَقُولُ مَسَاكِنِكُمُ الَّتِي فِيهَا أَهَالِيكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ، فَيَكُونُ لِلْأَهْلِ والولد هناك شي قَدْ أَفَادَهُمْ هَذَا اَلرَّجُلُ الَّذِي لَهُ الْمَسْكَنُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقُوتِ، أَوْ يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ هُنَاكَ شي مِنْ مِلْكِهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ.
---------------
(١). في ب وك:" إن معنى".

الصفحة 314