كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 12)

وَالرُّخْصَةِ سَمِعَهُمَا جَمِيعًا فَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْكَوْثَرِ" «١» الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَةِ وَنَدْبِيَّتِهَا وَأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِكُلِّ ذَبْحٍ تَقَدَّمَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) " الْفَقِيرُ" مِنْ صِفَةِ الْبَائِسِ، وَهُوَ الَّذِي نَالَهُ الْبُؤْسُ وَشِدَّةُ الْفَقْرِ، يُقَالُ: بَئِسَ يَبْأَسُ بَأْسًا إِذَا افْتَقَرَ، فَهُوَ بَائِسٌ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةُ دَهْرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ «٢» بْنُ خَوْلَةَ). وَيُقَالُ رَجُلٌ بَئِيسٌ أَيْ شَدِيدٌ. وَقَدْ بَؤُسَ يبؤس بأسا إذ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ" «٣» [الأعراف: ١٦٥] أَيْ شَدِيدٍ. وَكُلَّمَا كَانَ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ أَكْثَرَ كَانَ الْأَجْرُ أَوْفَرَ. وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ أَكْلُهُ خِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَقِيلَ. النِّصْفُ، لقوله:" فَكُلُوا، مِنْها وَأَطْعِمُوا" وقيل: الثلثان، لقوله: (أَلَا فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَاتَّجِرُوا) أَيِ اطْلُبُوا الْأَجْرَ بِالْإِطْعَامِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ، فَقِيلَ: وَاجِبَانِ. وَقِيلَ مُسْتَحَبَّانِ. وَقِيلَ: بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ، فَالْأَكْلُ مُسْتَحَبٌّ وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أَيْ ثُمَّ لِيَقْضُوا بَعْدَ نَحْرِ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، كَالْحَلْقِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَإِزَالَةِ شَعَثٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَيْ لِيُزِيلُوا عَنْهُمْ أَدْرَانَهُمْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: التَّفَثُ الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: التَّفَثُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذْهَابُ الشَّعَثِ، وَسَمِعْتُ الْأَزْهَرِيَّ يَقُولُ: التَّفَثُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ إِزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ. وَقِيلَ: التَّفَثُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا، رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَوْ صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِاللُّغَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَرِيبَةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيهَا شِعْرًا وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا، لَكِنِّي تَتَبَّعْتُ التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بن المثنى قال:
---------------
(١). راجع ج ٢٠ ص ٢١٦.
(٢). رثى لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مات بمكة. يعنى في الأرض التي هاجر منها: (راجع ترجمته في كتاب الاستيعاب).
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٠٨ [ ..... ]

الصفحة 49