كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 12)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ بِأَعْيَانِهِمْ لَكِنَّ لَفْظَهَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ قُلْتُ بَلْ هُمَا مُتَغَايِرَانِ وَالْمَرْجِعُ إِلَى تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِالْمُحَارَبَةِ فَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكُفْرِ خَصَّ الْآيَةَ بِأَهْلِ الْكُفْرِ وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ عَمَّمَ ثُمَّ نقل بن بَطَّالٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَمَا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَقَدْ نَزَلَ فِيهِمْ فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَكَانَ حُكْمُهُمْ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُحَارَبَةِ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ مِنَ الْمُحَارِبِينَ يَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَبُ بِمَا ذُكِرَ بِمَا جَنَاهُ فِيهَا وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي الْكَافِرِ لَنَفَعَتْهُ الْمُحَارَبَةُ وَلَكَانَ إِذَا أَحْدَثَ الْحِرَابَةَ مَعَ كُفْرِهِ اكْتَفَيْنَا بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَسَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ فَتَكُونُ الْحِرَابَةُ خَفَّفَتْ عَنْهُ الْقَتْلَ وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِقَامَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ الْمُرْتَدِّ مَثَلًا أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْقَتْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ مَعْنَى الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ الْكُفْرُ بِهِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي آخِرِ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ قَالَ فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَاكَ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ هُمْ مِنْ عُكْلٍ قُلْتُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ فقد وجد التَّصْرِيح الَّذِي نَفَاهُ بن بَطَّالٍ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ أَوَّلًا فِيهِمْ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهَا مَنْ حَارَبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ لَكِنَّ عُقُوبَةَ الْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ إِذَا ظَفِرَ بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ يُنْظَرُ فِي الْجِنَايَةِ فَمَنْ قَتَلَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَ وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ وَجَعَلُوا أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَقَالَ مَالِكٌ بَلْ هِيَ لِلتَّخْيِيرِ فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي الْمُحَارِبِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُخْرَجُ مِنْ بَلَدِ الْجِنَايَةِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى زَادَ مَالِكٌ فَيُحْبَسُ فِيهَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يُحْبَسُ فِي بَلَدِهِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ فِي الْبَلَدِ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْحَبْسِ إِقَامَةٌ فَهُوَ ضِدُّ النَّفْيِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ النَّفْيِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْبَلَدِ وَقَدْ قُرِنَتْ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ بِالْقَتْلِ قَالَ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ اسْتِمْرَارُ الْمُحَارَبَةِ فِي الْبَلْدَةِ الْأُخْرَى فَانْفَصَلَ عَنْهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَكْفِيهِ مُفَارقَة الوطن وَالْعشيرَة خذلانا وذلا ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مُصَرِّحًا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِهِ فَأُمِنَ فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّسْوِيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَوَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
[6802] فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقتلُوا رعاتها وَاسْتَاقُوا الْإِبِل
الصفحة 110