كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 12)
أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتُرَ نَفْسَهُ وَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ كَمَا أَشَارَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى مَاعِزٍ وَأَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَفْضَحُهُ وَلَا يَرْفَعُهُ إِلَى الْإِمَامِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ وَبِهَذَا جَزَمَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أُحِبُّ لِمَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتُوبَ وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ مَاعِز مَعَ أبي بكر وَعمر وَقَالَ بن الْعَرَبِيِّ هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَظَاهِرًا بِالْفَاحِشَةِ مُجَاهِرًا فَإِنِّي أُحِبُّ مُكَاشَفَتَهُ وَالتَّبْرِيحَ بِهِ لِيَنْزَجِرَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَقَدِ اسْتُشْكِلَ اسْتِحْبَابُ السَّتْرِ مَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَأَجَابَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ كَانَ ظَهَرَ بِهَا الْحَبَلُ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِتَارُ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِالْفَاحِشَةِ وَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَ بَعْضُهُمْ تَرْجِيحَ الِاسْتِتَارِ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ مَا يُشْعِرُ بِضِدِّهِ وَإِنْ وُجِدَ فَالرَّفْعُ إِلَى الْإِمَامِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ أَفْضَلُ انْتَهَى وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّتْرَ مُسْتَحَبٌّ وَالرَّفْعَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّطْهِيرِ أَحَبُّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ التَّثَبُّتُ فِي إِزْهَاقِ نَفْسِ الْمُسْلِمِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي صِيَانَتِهِ لِمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ تَرْدِيدِهِ وَالْإِيمَاءِ إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى قَبُولِ دَعْوَاهُ إِنِ ادَّعَى إِكْرَاهًا وَأَخْطَأ فِي مَعْنَى الزِّنَا أَوْ مُبَاشَرَةٍ دُونَ الْفَرْجِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِقْرَارِ بِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَفِي الْمَسْجِدِ وَالتَّصْرِيحُ فِيهِ بِمَا يستحي مِنَ التَّلَفُّظِ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّفَثِ فِي الْقَوْلِ مِنْ أَجْلِ الْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ لِذَلِكَ وَفِيهِ نِدَاءُ الْكَبِيرِ بِالصَّوْتِ الْعَالِي وَإِعْرَاضُ الْإِمَامِ عَنْ مَنْ أَقَرَّ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ يَرْجِعُ وَاسْتِفْسَارُهُ عَنْ شُرُوطِ ذَلِكَ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ وَأَنَّ إِقْرَارَ الْمَجْنُونِ لَاغٍ وَالتَّعْرِيضَ لِلْمُقِرِّ بِأَنْ يَرْجِعَ وَأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ قُبِلَ قَالَ بن الْعَرَبِيِّ وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِرُجُوعِهِ وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ وَنَدِمَ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا وَلَا يُخْبِرُ بِهَا أَحَدًا وَيَسْتَتِرَ بِسِتْرِ اللَّهِ وَإِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ يُخْبِرُ أَحَدًا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّوْبَةِ وَسَتْرِ ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ كَمَا جَرَى لِمَاعِزٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ وَقَدْ أَخْرَجَ قِصَّتَهُ مَعَهُمَا فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلَةً وَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهَزَّالٍ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ فَقَالَ هَزَّالٌ جَدِّي جَدِّي وَهَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ قَالَ الْبَاجِيُّ الْمَعْنَى خَيْرًا لَكَ مِمَّا أَمَرْتَهُ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ أَمْرِهِ وَكَانَ سَتْرُهُ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْكِتْمَانِ كَمَا أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَكَرَ الثَّوْبَ مُبَالَغَةً أَيْ لَوْ لَمْ تَجِدِ السَّبِيلَ إِلَى سَتْرِهِ إِلَّا بِرِدَائِكَ مِمَّنْ عَلِمَ أَمْرَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا أَشَرْتَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْإِظْهَارِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَكْرِيرِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا أَرْبَعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَإِنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْعَدَدَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي تَأْخِيرِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَأَمَرَ بِرَجْمِهِ فِي أَوَّلِ مرّة وَلِأَن فِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ قَالَ لِمَاعِزٍ قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُهُ وَيُؤَيِّدُ الْقِيَاسَ عَلَى عَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيّين وَالرَّاجِح عِنْد الْحَنَابِلَة وَزَاد بن أَبِي لَيْلَى فَاشْتُرِطَ أَنْ تَتَعَدَّدَ مَجَالِسُ الْإِقْرَارِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَتَمَسَّكُوا بِصُورَةِ الْوَاقِعَةِ لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهَا اخْتَلَفَتْ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَجَالِسَ تَعَدَّدَتْ لَكِنْ لَا بِعَدَدِ الْإِقْرَارِ فَأَكْثَرُ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَرَّ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَأَقَرَّ مَرَّتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ وَهِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِزِيَادَةِ الِاسْتِثْبَاتِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَوَابَ مَا تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
الصفحة 125