كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 12)
فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ لِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِهَا عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَوْ أَنَّ سُكْرَهُ وَقَعَ عَنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَفِيهِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالزِّنَا إِذَا أَقَرَّ يُتْرَكُ فَإِنْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ فَذَاكَ وَإِلَّا اتُّبِعَ وَرُجِمَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَدَلَالَتُهُ مِنْ قِصَّةِ مَاعِزٍ ظَاهِرَةٌ وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ كُنَّا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ لَوْ رَجَعَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ لَا يُتْرَكُ إِذَا هَرَبَ وَقِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ لم يُؤْخَذ ترك وَعَن بن عُيَيْنَةَ إِنْ أُخِذَ فِي الْحَالِ كُمِّلَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ أُخِذَ بَعْدَ أَيَّامٍ تُرِكَ وَعَنْ أَشْهَبَ إِنْ ذَكَرَ عُذْرًا يُقْبَلُ تُرِكَ وَإِلَّا فَلَا وَنَقَلَهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَحَكَى الْكَجِّيُّ عَنْهُ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمَا بَعْدَ إِقْرَارِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الَّذِينَ رَجَمُوهُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ أَنْ هَرَبَ لَمْ يُلْزَمُوا بِدِيَتِهِ فَلَوْ شُرِعَ تَرْكُهُ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ حَدَّ الرَّجْمِ يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الْهَرَبِ وَقَدْ عَبَّرَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِقَوْلِهِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالرَّجْمِ فِي حَدِّ مَنْ أُحْصِرَ مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ وَأَنَّ الْمُصَلَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ وَأَنَّ الْمَرْجُومَ فِي الْحَدِّ لَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ بِالْحَدِّ وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ أَيْضًا قَرِيبًا وَأَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيحُ الْخَمْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مِنْ جِهَةِ اسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ أَشَرِبْتَ خَمْرًا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ كَذَا قَالَ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَرْءِ الْحَدِّ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِوُجُودِ تُهْمَتِهِ عَلَى مَا يُظْهِرُهُ مِنْ عَدَمِ الْعَقْلِ قَالَ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي غَيْرِ الطَّافِحِ أَنَّ طَلَاقَهُ لَازِمٌ قَالَ وَمَذْهَبُنَا الْتِزَامُهُ بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَاسْتَثْنَى مَنْ أُكْرِهَ وَمَنْ شَرِبَ مَا ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْكِرٍ وَوَافَقَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا صِحَّةُ إِقْرَارِ السَّكْرَان وَنُفُوذُ أَقْوَالِهِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ قَالَ وَالسُّؤَالُ عَنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ مَحْمُولٌ عندنَا على أَنه لَو كَانَ سكرانا لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَذَا أَطْلَقَ فَأَلْزَمَ التَّنَاقُضَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مُرَادَهُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عِيَاضٍ قُلْتُ وَقَدْ مَضَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمِنَ الْمَذَاهِبِ الظَّرِيفَةِ فِيهِ قَوْلُ اللَّيْثِ يُعْمَلُ بِأَفْعَالِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِأَقْوَالِهِ لِأَنَّهُ يَلْتَذُّ بِفِعْلِهِ وَيَشْفِي غَيْظَهُ وَلَا يَفْقَهُ أَكْثَرَ مَا يَقُولُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقولُونَ
الصفحة 127