كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 12)

تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي بَابِ الِاسْتِئْذَانِ وَأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ لَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ بَلْ يُشْرَعُ عَلَى مَنْ كَانَ مُنْكَشِفًا وَلَوْ كَانَ أُمًّا أَوْ أُخْتًا وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ رَمْيِ مَنْ يَتَجَسَّسُ وَلَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ جَازَ بِالثَّقِيلِ وَأَنَّهُ إِنْ أُصِيبَتْ نَفْسُهُ أَوْ بَعْضُهُ فَهُوَ هَدَرٌ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْقِصَاصِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْدُ الْعَيْنِ وَلَا غَيْرِهَا وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُدْفَعُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ لَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ هَذَا السَّبَبِ يُعَدُّ مَعْصِيَةً وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّائِلِ وَلَوْ أَتَى عَلَى نَفْسِ الْمَدْفُوعِ وَهُوَ بِغَيْرِ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ مَعْصِيَةٌ فَهَذَا مُلْحَقٌ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ النَّصِّ فِيهِ وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالْإِرْهَابِ وَوَافَقَ الْجُمْهُورُ مِنْهُم بن نَافِعٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنْهُمْ لَعَلَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالَّذِي يَهُمُّ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَجُوزُ أَوْ يُؤَدِّيَ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ وَالْحَمْلُ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ لَا يَتِمُّ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَلَيْسَ مَعَ النَّصِّ قِيَاسٌ وَاعْتَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةِ الْآخَرِ ظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ وَلَا سُقُوطَ ضَمَانِهَا عَمَّنْ فَقَأَهَا فَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَنْظُورُ فِي بَيْتِهِ وَتَجَسَّسَ النَّاظِرُ إِلَى ذَلِكَ وَنَازَعَ الْقُرْطُبِيُّ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَقَالَ إِنَّ الْخَبَرَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُطَّلِعٍ قَالَ وَإِذَا تَنَاوَلَ الْمُطَّلِعُ فِي الْبَيْتِ مَعَ الْمَظِنَّةِ فَتَنَاوُلُهُ الْمُحَقَّقَ أَوْلَى قُلْتُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّطَلُّعَ إِلَى مَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ مَثَلًا بَلْ يَشْمَلُ اسْتِكْشَافَ الْحَرِيمِ وَمَا يَقْصِدُ صَاحِبُ الْبَيْتِ سَتْرَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَجِبُ اطِّلَاعُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَيْهَا وَمِنْ ثَمَّ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ التَّجْسِيسِ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ حَسْمًا لِمَوَادِّ ذَلِكَ فَلَوْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ الْمُدَّعَى لَمْ يَسْتَلْزِمْ رَدَّ هَذَا الْحُكْمِ الْخَاصِّ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَاقِلَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَرَى وَجْهَ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَكَذَا فِي حَالِ مُلَاعَبَتِهِ أَهْلَهُ أَشَدُّ مِمَّا رَأَى الْأَجْنَبِيُّ ذَكَرَهُ مُنْكَشِفًا وَالَّذِي أَلْزَمَهُ الْقُرْطُبِيُّ صَحِيحٌ فِي حَقِّ مَنْ يَرُومُ النَّظَرَ فَيَدْفَعُهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لَا يُشْرَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْإِنْذَارُ قَبْلَ الرَّمْيِ وَجْهَانِ قِيلَ يُشْتَرَطُ كَدَفْعِ الصَّائِلِ وَأَصَحُّهُمَا لَا لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ يَخْتِلُهُ بِذَلِكَ وَفِي حُكْمِ الْمُتَطَلِّعِ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ النَّاظِرُ مِنْ كَوَّةٍ مِنَ الدَّارِ وَكَذَا مَنْ وَقَفَ فِي الشَّارِعِ فَنَظَرَ إِلَى حَرِيمِ غَيْرِهِ أَوْ إِلَى شَيْءٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ وَقِيلَ الْمَنْعُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ وَهَلْ يُلْحَقُ الِاسْتِمَاعُ بِالنَّظَرِ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ لَا لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ أَشَدُّ مِنِ اسْتِمَاعِ ذِكْرِهَا وَشَرْطُ الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةُ أَوْ أَوْلَوِيَّةُ الْمَقِيسِ وَهُنَا بِالْعَكْسِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ قَدْرِ مَا يُرْمَى بِهِ بِحَصَى الْخَذْفِ الْمُقَدَّمِ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَخَذَفْتُهُ فَلَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُ أَوْ سَهْمٍ تَعَلَّقَ بِهِ الْقِصَاصُ وَفِي وَجْهٍ لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا وَلَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِذَلِكَ جَازَ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَهُ فِي تِلْكَ الدَّارِ زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ مَتَاعٌ فَأَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ رَمْيُهُ لِلشُّبْهَةِ وَقِيلَ لَا فَرْقَ وَقِيلَ يَجُوزُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ غَيْرُ حَرِيمِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا غَيْرُهُمْ أُنْذِرَ فَإِنِ انْتَهَى وَإِلَّا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ هُوَ مَالِكُهَا أَوْ سَاكِنُهَا لَمْ يَجُزِ الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِنْذَارِ إِلَّا إِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا لِأَنَّ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يُكْرَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ قَصَّرَ صَاحِبُ الدَّارِ بِأَنْ تَرَكَ الْبَابَ مَفْتُوحًا وَكَانَ النَّاظِرُ مُجْتَازًا فَنَظَرَ غَيْرَ قَاصِدٍ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا مَنْ نَظَرَ مِنْ سَطْحِ بَيْتِهِ فَفِيهِ الْخِلَافُ وَقَدْ تَوَسَّعَ أَصْحَابُ الْفُرُوعِ فِي نَظَائِر ذَلِك قَالَ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَبَعْضُ تَصَرُّفَاتِهِمْ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِطْلَاقِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ وَبَعْضُهَا مِنْ مُقْتَضَى فَهْمِ الْمَقْصُودِ وَبَعْضُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم

الصفحة 245