كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 12)
مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ كَافٍ وَحَاصِلُ مَقَالَتِهِمْ أَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ قَدِيمَانِ وَأَنَّهُمَا امْتَزَجَا فَحَدَثَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنْهُمَا فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ فَهُوَ مِنَ الظُّلْمَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ فَهُوَ مِنَ النُّورِ وَأَنَّهُ يَجِبُ السَّعْيُ فِي تَخْلِيصِ النُّورِ مِنَ الظُّلْمَةِ فَيَلْزَمُ إِزْهَاقُ كُلِّ نَفْسٍ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْمُتَنَبِّي حَيْثُ قَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدِ تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وَكَانَ بَهْرَامُ جَدُّ كِسْرَى تَحَيَّلَ عَلَى مَانِّيَ حَتَّى حَضَرَ عِنْدَهُ وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَبِلَ مَقَالَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقَايَا اتَّبَعُوا مَزْدَكَ الْمَذْكُورَ وَقَامَ الْإِسْلَامُ وَالزِّنْدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْإِسْلَامَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ الِاسْمُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ الزَّنْدَقَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ وَكَذَا أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الزِّنْدِيقَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ فَإِنْ أَرَادُوا اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَأَصْلُهُمْ مَا ذَكَرْتُ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي لُغَاتِ الرَّوْضَةِ الزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يَنْتَحِلُ دِينًا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ فِي التَّنْقِيبِ عَلَى الْمُهَذَّبِ الزَّنَادِقَةُ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ يَقُولُونَ بِبَقَاءِ الدَّهْرِ وَبِالتَّنَاسُخِ قَالَ وَمِنَ الزَّنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةُ وَهُمْ قَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ شَيْئًا ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ فَدَبَّرَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ وَيُسَمُّونَهُمَا الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَتَارَةً الْعَقْلَ الْأَوَّلَ وَالْعَقْلَ الثَّانِيَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ غَيَّرُوا الِاسْمَيْنِ قَالَ وَلَهُمْ مَقَالَاتٌ سَخِيفَةٌ فِي النُّبُوَّاتِ وَتَحْرِيفِ الْآيَاتِ وَفَرَائِضِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ الزِّنْدِيقَ بِمَا يُفَسَّرُ بِهِ الْمُنَافِقُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَأَيُّ كُفْرٍ ارْتَدَّ إِلَيْهِ مِمَّا يُظْهِرُ أَوْ يُسِرُّ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ تَابَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اتِّحَادُ الزِّنْدِيقِ وَالْمُنَافِقِ بَلْ كُلُّ زِنْدِيقٍ مُنَافِقٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَكَانَ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُنَافِقُ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ عِبَادَةَ الْوَثَنِ أَوِ الْيَهُودِيَّةَ وَأَمَّا الثَّنَوِيَّةُ فَلَا يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقَلَةُ فِي الَّذِينَ وَقَعَ لَهُمْ مَعَ عَلِيٍّ مَا وَقَعَ عَلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ وَاشْتَهَرَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَذَبَحَهُ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى ثُمَّ كَثُرُوا فِي دَوْلَةِ الْمَنْصُورِ وَأَظْهَرَ لَهُ بَعْضُهُمْ مُعْتَقَدَهُ فَأَبَادَهُمْ بِالْقَتْلِ ثُمَّ ابْنُهُ الْمهْدي فَأكْثر من تَتَبُّعِهِمْ وَقَتْلِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ بَابَكُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ كَافٍ مُخَفَّفَةٍ الْخُرَّمِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ فَغَلَبَ عَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ وَقَتَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَهَزَمَ الْجُيُوشَ إِلَى أَنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُعْتَصِمُ فَصَلَبَهُ وَلَهُ أَتْبَاعٌ يُقَالُ لَهُمُ الْخُرَّمِيَّةُ وَقِصَصُهُمْ فِي التَّوَارِيخِ مَعْرُوفَةٌ
[6922] قَوْله فَبلغ ذَلِك بن عَبَّاسٍ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ مَنْ بَلَّغَهُ وبن عَبَّاسٍ كَانَ حِينَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ قَوْلُهُ لِنَهْيِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَيْ لِنَهْيِهِ عَنِ الْقَتْلِ بِالنَّارِ لِقَوْلِهِ لَا تُعَذِّبُوا وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا سَمِعَهُ بن عَبَّاسٍ مِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعَثَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ اسْمَهُمَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بشرح الحَدِيث وَعند أبي دَاوُد عَن بن مَسْعُودٍ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ قَوْلُهُ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَوْلُهُ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ زَادَ إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ فِي رِوَايَتِهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ وَيْح أم بن عَبَّاسٍ كَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِحَذْفِ أُمِّ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِمَا اعْتَرَضَ بِهِ وَرَأَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ وَسَيَأْتِي فِي الحَدِيث الَّذِي
الصفحة 271