كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 12)

لَهُ فَاسِقٌ مَثَلًا وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ التَّوْبَةُ فَالزَّائِلُ عَنْهُ حِينَئِذٍ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالْإِطْلَاقِ وَالثَّابِتُ لَهُ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالتَّقْيِيدِ فَيُقَالُ هُوَ مُصَدِّقٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَفْظًا وَاعْتِقَادًا لَا عَمَلًا وَمِنْ ذَلِكَ الْكَفّ عَن الْمُحرمَات وأظن بن بطال تلقى ذَلِك من بن حَزْمٍ فَإِنَّهُ قَالَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَهُوَ يَشْمَلُ عَمَلَ الطَّاعَةِ وَالْكَفَّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ لَمْ يَخْتَلَّ اعْتِقَادُهُ وَلَا نُطْقُهُ بَلِ اخْتَلَّتْ طَاعَتُهُ فَقَطْ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُطِيعٍ فَمَعْنَى نَفْيِ الْإِيمَانِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْذَارِ بِزَوَالِهِ مِمَّنِ اعْتَادَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُفْضِيَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَمَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى الْحَدِيثَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ أَشَارَ الْمَازِرِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمُصَحَّحَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الطَّاعَاتِ تُسَمَّى إِيمَانًا وَالْعَجَبُ مِنَ النَّوَوِيِّ كَيْفَ جزم بِأَن فِي التَّأْوِيل الْمَنْقُول عَن بن عَبَّاسٍ حَدِيثًا مَرْفُوعًا ثُمَّ صَحَّحَ غَيْرَهُ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى صِحَّتِهِ وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي صَحَّحَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَقَصَ مِنْ إِيمَانِ الْمَذْكُورِ الْحَيَاءَ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِالنُّورِ وَقَدْ مَضَى أَنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَى مِنْهُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُشَاهِدٌ حَالَهُ لَمْ يَرْتَكِبْ ذَلِكَ وَإِلَى ذَلِكَ تَصِحُّ إِشَارَةُ بن عَبَّاسٍ تَشْبِيكُ أَصَابِعِهِ ثُمَّ إِخْرَاجُهَا مِنْهَا ثُمَّ إِعَادَتُهَا إِلَيْهَا وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ مَنِ اسْتَحَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى انْتَهَى وَحَاصِلُ مَا اجْتَمَعَ لَنَا مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَوْلًا خَارِجًا عَنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَعَنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَقْوَالِ الْمَنْسُوبَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ يُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ تَدْفَعُ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الرَّافِضَةِ إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَكَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّهُ فَاسِقٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَإِنَّ الطَّوَائِفَ الْمَذْكُورِينَ تَعَلَّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَشِبْهِهِ وَإِذَا احْتَمَلَ مَا قُلْنَاهُ انْدَفَعَتْ حُجَّتُهُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا فَنَبَّهَ بِالزِّنَا عَلَى جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ وَبِالسَّرِقَةِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْحِرْصِ عَلَى الْحَرَامِ وَبِالْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَصُدُّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ حُقُوقِهِ وَبِالِانْتِهَابِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِعِبَادِ اللَّهِ وَتَرْكِ تَوْقِيرِهِمْ وَالْحيَاء مِنْهُم وعَلى جمع الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إِلَّا مَعَ الْمُسَامَحَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْحَدِيثَ يَتَضَمَّنُ التَّحَرُّزَ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْمَفَاسِدِ وَأَضْدَادُهَا مِنْ أُصُولِ الْمَصَالِحِ وَهِيَ اسْتِبَاحَةُ الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَالِ الْعَقْلِ وَخُصَّ الْخَمْرُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ الْوُجُوهِ فِي ذَلِكَ وَالسَّرِقَةُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا مَالُ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ قُلْتُ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ عُمُومَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ يَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ وَلَيْسَتِ الصَّغَائِرُ مُرَادَةً هُنَا لِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَقَعُ الْوَعِيدُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ التَّشْدِيدِ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ مَنْ زَنَى دَخَلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ سَوَاءٌ كَانَ بِكْرًا أَوْ مُحْصَنًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَزْنِيُّ بِهَا أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَحْرَمًا وَلَا شَكَّ أَنه فِي حق الْمحرم فحش وَمِنَ الْمُتَزَوِّجِ أَعْظَمُ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا مِنِ اللَّمْسِ الْمُحَرَّمِ وَكَذَا التَّقْبِيلُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّهَا وَإِنْ سُمِّيَتْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ زِنًا فَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنَ الصَّغَائِرِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَرَقَ قَلِيلًا أوكثيرا وَكَذَا مَنِ انْتَهَبَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ شَرَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا فِي كَوْنِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً أَن يكون

الصفحة 62