كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 12)

وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلكم, أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم, وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم، وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليَّ غدًا فيلكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي، يا أيها الناس, إن الذنوب تغيّر النعم، وتبدّل القِسَم، فإذا بَرَّ الناس برَّهم أئتمتهم, وإذا فجر الناس
__________
عَبَّر بالمفاعلة تشبيهًا بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] تشبيهًا لفعل المنافقين بفعل المخادع {فَهَلْ عَسَيْتُم} فهل يتوقع منكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس, وتأمَّرتم عليهم, أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تشاجرًا على الدنيا وتجاذبًا لها, أو رجوعًا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب، والمعنى: إنهم لضعفهم في الدِّين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم, ويقول لهم: هل عسيتم.
قاله البيضاوي: ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام, "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار" أي: اتخذوا المدينة وطنًا, سُمِّيَت دارًا لأنها دار الهجرة, "والإيمان" أي: ألفوه, فنصب بعامل خاص, أو بتضمين تبوّءوا معنى لزموا, أو يجعل الإيمان منزلًا مجازًا لتمكنهم فيه، فجمع في تبوءوا بين الحقيقة المجاز, "من قبلكم, أن تحسنوا إليهم" بدل من خيرًا، ثم بَيَّن أن أمره به لمكافأتهم بقوله: "ألم يشاطروكم في الثمار" بإعطائكم نصف ثمارهم, والاستفهام للتقرير, "ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم؟ " يقدموكم "على أنفسهم, وبهم الخصاصة" الحاجة إلى ما يؤثرون به, "ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين" منهم, "فليقبل من محسنهم, وليتجاوز عن مسيئهم" في غير الحدود، وعَبَّر بالجمع إشارة إلى أن المراد جنس رجلين, أو على أن أقل الجمع اثنان, "ألا" بالفتح مخففًا "ولا تستاثروا عليهم" بتقديم أنفسكم وتميزكم بالأمور الدنيوية دونهم, "ألا وإني فرط" بفتحتين سابق, "لكم" أهييء لكم حوائجكم, "وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض" في القيامة, "ألا فمن أحب أن يَرِدَه عليَّ غدًا" عَبَّر به؛ لأن كل ما هو آتٍ قريب, "فليكفف يده ولسانه إلّا فيما ينبغي" وخصَّهما؛ لأنهما أغلب ما يحصل الفعل, وإلا فباقي الأعضاء كذلك, "يا أيها الناس, إن الذنوب تغيِّر النِّعَم" كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] "وتبدِّل القِسَم, فإذا بَرَّ الناس بَرَّهم أئمتهم، وإذا فجروا عقوهم" , أي: عقَّهم أئمتهم بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان

الصفحة 112