كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 12)
وفيه أيضًا من حديث أنس, قال -صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح, فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك". ورواه الطبراني وزاد فيه: قال: "فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم
__________
أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته, ويراهم، فلمَّا حقق الله رجاءه ورآهم جزم به, "وأنا أوّل من يقرع باب الجنة" أي: يطرقه للاستفتاح, فيكون أوّل داخل, "وفيه" أي: مسلم في الإيمان أيضًا من حديث ثابت البناني, عن "أنس" بن مالك قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "آتي" بمد الهمزة "باب الجنة يوم القيامة" بعد الحشر والحساب، وعبَّر بآتي دون أجيء؛ للإشارة إلى أنَّ مجيئه على تمهّل وأمان بلا تعب؛ لأن الإتيان كما قال الراغب: مجيء بسهولة, والمجيء أعم, "فأستفتح" بسين الطلب, إيماءً إلى تحقق وقوع مدخولها، أي: أطلب فتحه بالقرع, كما في الأحاديث لا بالصوت، وفاء التعقيب إشارة إلى أنه أذن له من الله بلا واسطة خازن ولا غيره؛ بحيث صار الخازن مأموره منتظرًا قدومه, "فيقول الخازن" الحافظ المؤتَمَن على ما استحفظه, وأل عهدية, والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة لأنَّه أعظمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزنة, "من أنت" أجابه بالاستفهام, وأكَّده بالخطاب تلذذًا بمناجاته, وإلّا فأبواب الجنة شفافة كما في خبر, وهو العلم الذي لا يشتبه, والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان قبل ذلك وعرفه أتمَّ معرفة، ولذا اكتفى بقوله: "فأقول محمد" وإن كان المسمَّى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة"، لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلّا في مجرد الاسم، كما في حديث، فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا, ولم يقل أنا؛ لإبهامه, مع إشعاره بتعظيم النفس, وهو سيد المتواضعين.
قال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي, ولا نسي لسمو مقامي، وذهب بعض الصوفية والعلماء إلى كراهة إخبار الرجل عن نفسه بأنا تمسُّكًا بظاهر الخبر حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها، كقول إبليس: {أَنَا خَيْرٌ} ، وفرعون: {أَنَا رَبُّكُمْ} ، قال بعض المحققين: وليس كما قالوا، بل الشؤم لما صحبه من دعوى الخير والربوبية، وقد ناقضهم نصوص كثيرة, {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} , {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} , {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أنا سيد ولد آدم, أنا أثر الأنبياء تبعًا, وغير ذلك، وقد قال النووي: لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان, أو القاضي فلان, إذا لم يحصل التمييز إلّا به, وخلا عن الخيلاء والكبر" فيقول: "بك" بسببك متعلق بقوله: "أمرت" بالبناء للمفعول, والفاعل الله, قدمت للتخصيص، ويجوز أن تكون صلة للفعل، وأن قوله: "لا أفتح" بدل من الضمير المجرور، أي: أمرت الفتح, "لأحد قبلك" والرواية في مسلم: لا أفتح بدون أن قبلها -كما ذكره المصنف هنا خلافًا لما وقع له في الخصائص