كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 12)

فإن قلت: أيُّ الجنان يسكنها النبي -صلى الله عليه وسلم؟
فاعلم -منحني الله وإياك التمتع بذاته القدسية في الحضرة الفردوسية- أنَّ الله تعالى قد اتخذ من الجنان دارًا اصطفاها لنفسه، وخصَّها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل, ومن البشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .
وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن, لا يكون معه فيها أحد إلّا
__________
فإن قلت: أيّ الجنان يسكنها النبي -صلى الله عليه وسلم, فاعلم -منحني" أعطاني "الله وإياك التمتع بذاته" رؤيته تعالى التي لا نعيم يدانيها "القدسية" الطاهرة عمَّا لا يليق بها من صفات المحدثات, ليس كمثله شيء, وفي إطلاق الذات على الله مقال, "في الحضرة الفردوسية" أعلى الجنة, "أنَّ الله تعالى قد اتّخذ من الجنان دارًا اصطفاها" اختارها "لنفسه" أي: ليسكنها خُلَّص أوليائه, ويتجلَّى لهم فيها؛ إذ هو سبحانه لا يحويه مكان "وخصَّها بالقرب من عرشه, وغرسها بيده" بقدرته من غير واسطة, والإضافة للتشريف، وإلّا فكل شيء بقدرته, "فهي سيدة" أي: أفضل "الجنان, والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله, كما اختار من الملائكة جبريل" بناءً على أنه أفضلهم, على ما روي عن كعب الأحبار، وقال صاحب الحبائك: الأحاديث متعارضة في أنّه الأفضل أو إسرافيل، وحديث أفضل الملائكة جبريل ضعيف "ومن البشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم", بل هو أفضل الخلق إجماعًا {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما يشاء.
"وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى" هو مصروف عن ظاهره إجماعًا، واختلف: هل يخاض في تأويله أو لا, وهو أسلم بدليل اتفاقهم على أن التأويل المعيّن لا يجب، كما قاله البيهقي: "في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل" أي: في الثلاث الساعات الآخرة, فلا ينافي قوله الآتي: "ثم يهبط آخر ساعة...." إلخ.
ولا قوله: "فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره, فيمحو الله" منه "ما يشاء ويثبت" بالتخفيف والتشديد- فيه "ما يشاء" من الأحكام وغيرها, على ما يشاء من تغيير الأحوال وتصريف الأسباب, لا بمعنى تغيير حكم استقر بأمر بدا له, "ثم ينظر في الساعة الثانية" من الثلاثة نظر عطف ورحمة وإبداء نعمة "في جنة عدن, وهي مسكنه الذي

الصفحة 390