كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 12)

كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس" يعني: إن تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس، فليس عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله، وكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة. وسر ذلك أن قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبَّته ومخاللته, فألسنتهم ملازمة لذكره، وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] وقوله تعالى:
__________
يحصل من الفم عند حصول الشبع, "ورشحًا" عرفًا "كرشح المسك".
قال القرطبي: وقد جاء في لفظ آخر: "لا يبولون ولا يتغوَّطون, وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك"، يعني: من أبدانهم, "يلهمون التسبيح والتحميد".
وفي رواية لمسلم: التسبيح والتكبير "كما يلهمون النفس"، يعني: إنَّ تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس, فليس عن تكليف وإلزام, وإنما هو عن تيسير وإلهام" لأنها ليست دار تكليف, ووجه التشبيه" كما قال القرطبي في المفهم: "إنَّ تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله" بل فيه لذة وراحة, "فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة، وسِرّ ذلك" أي: حكمته ونكتته "أنَّ قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته, وقد غمرتهم" غطتهم "سوابغ نعمته, وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره" ومن أحبّ شيئًا أكثر من ذكره، إلى هنا كلام المفهم، قال الأبي: فهو تسبيح "تنعم وتلذذ, "وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] بالجنة.
وقال البيضاوي: بالبعث والثواب, {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة, وإيراثها تمليكها, مختلعة من أعمالهم, أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه.
وروى ابن ماجه والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلّا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله" , فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 11] {نَتَبَوَّأُ} ننزل {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ؛ لأنها كلها لا يختار فيها مكان على مكان ويهدي الله كل أحد لمنزله, فلا يختار سواه, {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الجنة, وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما

الصفحة 429