كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 12)

وأمَّا على التقدير الثاني: وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض، ولا للماء، توجب حالة مخصوصة، فعلى هذا التقدير؛ علَّة سكون الأرض: هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون.
وعلة كونها مائدة مضطربة: هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة، وعلى هذا، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها؛ لتبقى ساكنة؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء، والثبات، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ.
الثاني: أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً.
فنقول: فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين، فلم لا نقولُ مثله في الأرض؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً.
الثالث: أنَّ الأرض كلها جسم، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس؟ .
فإن قيل: أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال، وتظهر تلك الحركات للناس، فبم تنكرون على من يقول: إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ، لم تقو الريحُ على تحريكها؟ .
قلنا: تلك البخارات احتبست في [داخل] قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة، ظهرت تلك الحركة، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة، وإنْ كانت على أسرع الوجوه، وأقواها، فكذا ها هنا.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والذي عندي ههنا أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية

الصفحة 32